آخر حوريات الأرض غادرت نحو السماء ، تركت كل شيء وذهبت، تركت لنا الدموع والتنهيدات ، الحزن والشهقات، اختفي الضوء من جوارنا واعتمت طريقنا وتنهدت منازلنا ، نكست أعلام قبيلتنا وبالقرأن صدحت مآذننا وصمتت الموسيقى وعزف كمنجاتنا وتحطمت أوتارنا ، ازدادت نبضاتنا وأرتفع ضغطنا وتمزقت أوردتنا ، ذهب وغادر صيفنا وحل وهطل شتاؤنا ، يبست أشجارنا وتساقطت أوراقنا ، أنحنت جبالنا وذبل زرعنا ، تبللت ثيابنا من دموعنا حتى نفد الماء من عيوننا ، هي جدتي من ودعت أرضنا وحطت رحالها حيثُ وجوار حبيبها ..
جَدتي أنتِ يا آخر الاُغنيات .
أنا بدونكِ مهدم يا حياتي ، يا شمعتي أنتِ يا من رحلتِ من جوارنا،
أنا بائس يا حبيبتي ويا جنتي ، يا دمعتي ويا فرحتي ، يا زفرتي ويا شهقتي ، يا خاطرتي ويا قصيدتي، يا لُغتي وكل حروفي ، حفيدكِ مليء بالأسى يا نجمتي ، هيا إخبريني لماذا رحلتِ وأختفيتِ وأنطفيتِ، هيا إخبريني لماذا ودعتِ كل شيء وغِبتِ كما تغيب الشمس ، أواه يا جدتي، أنا ممزق كراية وطنية ، مليء بالغُبار والأتربة كخرقة رثة، أنا مُشتت كإمرأة أخذت منها الحرب أولادها الستة، مُبعثر كقصرٍ نخر جسده صاروخ وعانقته ألف طلقة بُندقية وعشرون قذيفة دبابة فمن سيعديني إليَّ يا اُماه.
أيا جدتي.
ما زلتُ أتذكر نبراتكِ الحزينة ودموعك الغزيرة، حين أتيتُ إليكِ زائراً قبل شهرين من اللحظة، عندما قبلتُكِ فأطلقتِ نبراتكِ الحزينة فقلتِ بلهجتكِ القروية الريفية الجميلة ـ أشتي أشوف بنتك قبل ما أموت يا إبني، حينها تقطعت أوردتي فقطعتُ عهدٍ علي بأنني سأعود إلى قريتي أحتضن طفلتي وأعود صوبكِ، وفعلاً فعلتها لأجلكِ يا جنتي، أتيتُ بها نحوكِ إلى المدينة وحين وصلتُ رأيتكِ أمتليتِ بهجة وطرتِ نشوة ، نظرتُ إليكِ وابتهجت أنا وطِرت نشوة ، لم أكن أعلم أنكِ ستذهبين من جوارنا بعد أيام من حديثك ذاك ، آه وكأن الله من كان يتحدث لا أنتِ أو بالأصح الملائكة لا أنتِ.
هذه جدتي المصبوغ وجهها باصفرار الهُرد ، هذه جدتي وهذا وجهها المليء بالتجاعيد ، من تصدقت بتجاعيدها للعنكبوت ، ذاك العنكبوت من نسج خيوطه في الغار وأنقذ النبي مُحمد وصاحبه الصديق، هذه جدتي الراحلة من ترتدي قوس قُزح على رأسها والسماء قميصا والنجوم على فُستانها وورد الحدائق في أظافرها ، هذه جدتي وهذا أنا حفيدها أرثيها ، أتنهد ؛ أبكي ، وأصرخ لرحيلها ، وداعاً يا آخر الاُغنيات المنزلقة من السماء، وداعاً يا حبيبة الله وحدقاتنا، وداعاً يا لول سعيد قحطان الطيار ، يا من فردتِ أجنحتكِ وطرتِ نحو الله ، إلى الجنان يا حوريتنا الراحلة.
وداعاً
وداعاً
وداعاً
أنا حفيدكِ : طِفل ابنكِ أرثيك .


Post A Comment: