كنت أعتقد أن الصداقة القوية والمحبة التي تتشكل مع الوقت في فترة من الزمن؛ تستعصي على النسيان والتلاشي وإن ابتعدنا. يُشغل صديقي في الطريق أغنية لأم كلثوم؛ فتقول -لا طول بعدك يغيرني ولا الأيام بتبعدني- فأسأله هل فعلا طول البعد يمكن ألا يغيرنا؟
إن الغياب أكثر شيء يلحق الضرر بالعلاقات؛ مهما قالت الست صديقي العزيز، فالشخص الذي يغيب عن العين لمدة طويلة مهما كانت درجة قربه، تتبخر ذكراه شيئًا فشيئًا ويسلمه الزمن إلى النسيان!
الأب الذي يقضي عمره بعيدًا عن طفله؛ لن يكون شعوره بفكرة الأبوة والحب تجاه أبنائه، كما هو الحال مع الأب الذي يلازمه الطفل منذ النشأة، حتى الحب الذي يتغنى أصحابه بصيانته رغم المسافة وأن الشوق لا يعرف قيد الزمان، تبتلعه حفر المسافة وطول الغياب!
ولذلك كثيرا ما يعبر من اغترب فترة عن بلاده ثم عاد إليها بكلمة أشعر بالغربة كلما زرت بلدي، حتى أصدقاء طفولته وأقاربه وكل تفصيلة كانت جزءًا من كيانه، لم تفتأ السنوات والمسافة في تغريبه عنها!
كما يحكي غوتة -للحاضر سلطان لا يُضاهي- ولذلك نلقب الصديق بالخِلّ التي تعني شدة المرافقة واللزوم! لأن الإنسان لا يشعر بالإحساس العميق النابض بالحياة إلا بمن يراهم بعينيه، وينسج معهم بصرهُ ألفة، حتى ولو كانت حيوانات يعطف عليها، فلك أن تتخيل سلطة الحواس على طبيعتنا البشرية!
ولهذا مؤخرًا صرت استثقل الكتابة لشخص أعرفه بشكل واقعي على -واتس آب ومواقع التواصل- واكتفي بعبارات مقتضبة، يعتبره بعض أصدقائي إهمالاً أو عدم تقدير، بينما في الحقيقة؛ لأن تلك الطريقة في التواصل صارت تؤذيني.
فالتواصل الذي يفتقد إلى الحواس من حضور الوجه وحركة الملامح ونبرة الصوت والنظرة والصمت الذي يتخلل الحديث والحضور الجسدي بكل أشكاله، هو كذلك من أشكال البعد التي تضعف صلابة العلاقات مع الوقت، وتفقد الإنسان مهارة التواصل داخل فضائه الواقعي، وتنبىء بمستقبل مخيف في كل أشكال التواصل الإنساني!


Post A Comment: