حتى ولو حشونا ذاكرة الروبوت بكل قواعد اللغة من نحو وعروض ومفردات..و....لن ينتج نصا يدهش ويثير الاعجاب الموحّد وغيره من مواصفات نص ناجح يثير تعاطف القارئ ...وحتى لو فعلنا ذلك بمجال الموسيقى أيضا...قد ينتج مقطوعة موسيقية صحيحة القواعد ولكنها لن توازي مقطوعة لبيتوفن او موزارت أو غيرهم من المبدعين من حيث الحس والمعنى الإنساني ...فالكتابة ليست عملا ميكانيكيا...فليس هناك في الحقيقة "وصفة" محدّدة تجعل من نتاج مكتوب عملا أدبيا مبدعا...وحتى أعمال الكتاب الذين فرضوا مكانتهم واسماءهم بأعمالهم لم ولن يحظوا بإجماع قاطع على جمالية ما يكتبون وما كتبوا من جميع القراء...وذلك أمر صحي وسليم...سيقول قائل أن هناك مسلمات عقلانية عميقة لتصنيف عمل ما..نعم ولكنها تبقى قواعد غير دقيقة وغير محددة في المطلق. هل هذا يعني أن للصدفة أو الظرف المكاني والاجتماعي الدور الفعال؟ كل واحد فينا عندما يقرأ أو يسمع سردا أو شعرا ، هو قادر الى حد ما أن يطلق حكما بجمال وتشويق أو بقباحة وضحالة ما سمع أو ما قرأ..وقد تتفاوت الأحكام بدرجتها بحسب الظروف النفسية والمعارف للسامع والقارئ ولكنها لن تتناقض إلا في حالات "الانحياز" المقصود سلبا وحتى إيجابا. وطبعا في مسيرة الإنتاج الأدبي الطويل، لعبت الظروف التاريخية والسياسية دورا في تزكية الكثير من الكتاب والفلاسفة..ومرّ الكثيرون مغمورين مع أنهم قامات مبدعة لمن يقرؤهم بتجرد... وفي يومنا هذا حيث يكثر الإنتاج الأدبي بغزارة لم يسبق وعهدناها..ربما بسبب اتاحة وسائل النشر الالكترونية، زد على ذلك "حاجة " الناس لتفريغ مخاوفهم ومشاعرهم وآمالهم في الكتابة لعجزهم عن عيش حياة حقيقية أو لمجرد سرد يومياتهم التي كان الكثير منا يسردها في دفتر "سري" ومغلق أحيانا بقفل حقيقي لضمان الخصوصية. هذه الخصوصية التي فتحت أقفالها الآن تحت عناوين كثيرة وبطرق كثيرة تتناول ما كان محرّما قوله وبطريقة فجة وجارحة في بعض الأحيان. ومجرد أنها نُشِرت للعوام أصبحت "نتاجا أدبيا" عاما معرضا للحكم من رفض وقبول. وقد يلمس هذا النتاج القلب لقربه من الحقيقة والمصداقية في غالب الأحيان..ويفشل منها ما هو متصنّع، متكلّف ..وهذه حقيقة بسيطة أدركها واعترف بها المفكرون مثل ارسطو وافلاطون وهي أن كل نص جيد عليه أن "يشبه" يماثل الواقع الذي نعيشه بمشاعرنا. ولكن هذه "البساطة " ليست بال"بساطة"التي نتوقعها. هذه البساطة عليها أن تبث أمامنا ما نعيشه أي كشاشة نشاهد عليها فيلما. نحن ننفعل مع الفيلم وشخوصه وأحداثه في قصة من الحياة التي نحياها، قصة قد تحصل لكل منا، ولكنها تعطينا أيضا الشعور بالأمان بأننا خارجها، مشاهدين فقط وتزودنا بالجمال والفانتازيا والحلم الذي تفتقده الحياة في واقعها. أي أن الإنتاج الأدبي الجيد يترك بينه وبين الواقع والحقيقة الفجة مسافة أمان، مسافة حلم، مسافة جمال محتمل. يجب أن يحشر النص نفسه _برأيي_ في مساحة الممكن...الذي يشبه... وليس الذي هو...هذا يعطي إمكانية التطهر والشفاء أو الهروب والحلم من معاناة الواقع . وهكذا لنراقب أنفسنا بعد قراءة نصّ جميل بكل معنى الكلمة..كيف أن هذا الجمال أحدث لنا فرقا إيجابيا مهما كان ضئيلا. وبالعكس كيف يربكنا نص متكلف، يدّعي الفوقية بغموض معانيه فيترك النفس حائرة بمشاعرها فلا تجني منه لا عطرا ولا حلما ولا أمانا....من النادر جداً، في ايامنا هذه ايجاد شاعر(على وجه الخصوص) قادر على شد انتباه القارىء لدرجة ان يجعله يقتفي اثر اشعاره من نقطة البداية متمنياً الا يصل الى النهاية...وكما قال الرومي" من يلمس القلب يلمس المسافات".


Post A Comment: