حطت الطائرة، وها هو يحمل الحقيبة ،ويسير في رواق شبيه بالأنبوب لا يظهر إلا من كان معه،طويل هذا الأنبوب الذي يلفه ،في كل مرة يقول خرجت،لكن يسير، ويسير،كل مهتم بنفسه،ليس لهم الوقت للنظر في الآخرين،يطبقون مثلنا: من تدخل فيما لا يعنيه لقي ملا يرضيه،صغنا نحن هذا المثل،وهم طبقوه،لا تلتقي عيونهم بعيونك ابدا،كأنهم عمي أم ممغنطون،مبرمجون، صامتون تقرأ العيون اللافتات الضوئية،وتوجه القدمين.
*   تاكسي من النوع القديم ،اسود اللون، نظيف وكأنه صنع الآن للعناية به،مثل سائقه يتميز بهندام خاص مع القبعة،يشعرك بعظمة دولته، صامت بعيد عن الثرثرة.
أطل من النافذة،مساحات خضراء طول الشريط وطول الطريق، الأرض مغطاة لا ترى ترابها لكثرة الشجيرات الصغيرة المصفوفة بانتظام مقلمة بعناية تشكل رسوما هندسية ،بارعة الجمال،وحشائش.دخلنا المدينة،أمعن النظر وأحدق،نظافة تامة،لاورقة ولا عود كبريت،غريب ! أين تذهب تلك البقايا! اشتقت لرؤية الزبالة ،وبحثت فلم أجد ! لماذا ينتقمون منها ويتلفونها قبل أن يراها أحد ويملأ عينيه منها،على الأقل نحييها ،ونقارنها بين زبالتنا،لا شك أن زبالتهم نظيفة لذلك لم نراها.
*  أما الورود والأزهار ! فحدث،يعشقونها لدرجة الجنون،لا يخلو بيت او دكان ،أو فضاء تجاري إلا وله أزهار ونباتات، وحتى الذي لا يملك مساحة أبدا فيعمد إلى تعليق زهرية فوق الباب تتدلى منها باقة كبيرة متنوعة،مساحات خضراء كثيرة،ليس شرطا أن تكون حديقة ولو لبضعة أمتار يغرسونها أزهار وورودا،لا شك أنهم استمدوا جمال وجوههم وعيونهم الزرقاء من جينات الورود،يظهرون بوجوه شفافة تقول لو ضغطت بخفة عليها يتدفق الدم الأحمر من تحت القشرة الناعمة البلورية، يطير وجدانك ويتسرب إلى عيونهم ويبحر فيها فيحس بالسكينة الأبدية ،مثل ضحكاتهم الملائكية،وسلوكهم ولطافتهم ،هل تعلموا ذلك في المدرسة؟ أم في البيت؟ أم في الشارع؟ لا أعرف! لا أعرف ؟!.
*   أظن أن المسألة هي مسألة قيم، فهموها وطبقوها،نحن قرأناها فقط واتخذناها عدوا،نقدمها في المدارس ،وفي المساجد يوم الجمعة،ولا يطبقها لا المعلم ،ولا الإمام،والكل في كيس واحد محكم الربط،لكنهم يجادلون،وجدالهم لا اثر لهم في واقعهم .
*  يعيشون بشخصيتين ،واحدة في العلن، في الخطب والإشهار،واختيار الزخرفة اللغوية، والأخرى قناع للتخفي لكنها هي الواقع،إنها إنفصام الشخصية،شخصية غير مقتنعة بإنيتها وغير واثقة،وتلهث لما يأتي من وراء البحر فتقدسه، وتعمل به ليلا نهارا،وفي الرسميات تظهر قيم الإشهار التي حفظته ،كإمامنا في خطبة الجمعة ،لا يغير من محتوى الخطبة،ولا من درس الوضوء،والطلاق،والزواج،لكن نادرا ما يتكلم عن التسامح والتضامن،كل شيئ محفوظ،فلماذا نلوم تلاميذ المدارس على الحفظ؟ والأسئلة هي التي تجبرهم على ذلك ،فهم يتناولون باستمرار فيتامينات الذاكرة والتركيز،ليرجعوا ما قاله الإمام ،والمعلم،ورئيس الحزب، والمسؤول،إنها العودة لانفصام الشخصية،سخصية علنية تتباكى على القيم وعلى اللغة العربية،وشخصية مخفية حقيقية،تعمل ضد ما تعلنه،فعشنا مع الساحرة،وفي بيت علي بابا،ومع الغولة، وأكلنا طعاما مرا غير مستساغ،لكن أكلناه،بسبب شخصيتنا.
*  تقدموا بالقيم التي ما رسوها وعايشوها وألبسوها ثوب السلوك والتطبيق ،وتأخرنا ،لأننا قرأنا القيم وخفظناها فقط وتعمدنا تغييبها فصرنا إلى ما نحن فيه، فلو مارسنا القيم لفضحت  الأمور ،وطارت التيجان،وبقيت فقط الشخصية التي تمارس القيم .







Share To: