ركن درّاجته تحت الدّرج المؤدّي إلى غرفته، تلك التي علقت بين أطلال عمارة قديمة بناها الفرنسيون احتفالا بوصولهم إلى مدينته، كان كلما وطئت قدماه بلاط الغرفة إلا ونطّت باريس نافرة من تحت نعليه اللذين اقتناهما من سوق شعبية بإيطاليا، لا ينسى ذلك المساء الذي التقي فيه صوفيا، حيث أبدى إعجابه بجلد نعليها، فما كان منها سوى أن اقتادته إلى محل بيع الأحذية المفضّل لديها، وفي جناح النّعال تركته محتارا في الاختيار، أخيرا وضع يده على نعل يشبه رجليه الحافيتين.
وضع السلسلة محيطة كرسي الدرّاجة الهوائية جاذبة إيّاه إلى عمود الاتّكاء الذي يؤمّن الصّعود على الدّرج، أغلقها بقفل صغير، تأبّط أوراقه وكتابين كبيري الحجم، واتّجه صاعدا نحو الغرفة، وكلما ارتقي درجة جعل ينظر إلى نعليه بنرجسية طاغية، فإذا بوجه صوفيا يقفز من بين قطائع النّعل المشدودة على رجليه، يمتلئ نشوة، فنعال بلدته كلها مهلهة لا تضمّ الرِّجل، كان يتفقّد رجليه كلّما أعيته المحلات بحثا عن نعل واحد يشبهه، ولمّا يصل إلى نصف مبتغاه يغسل رجليه جيّدا ويضع النّعل الجديد أمامه، يأخذ له صورة ثم يفكر في نعل رخيص الثمن.
أدار المفتاح في القفل، دفع الباب الخشبي، سمع أزيزه المعتاد، ربّما استلزم الأمر تشحيمه، ركله من الخلف وهو يستقبل النّافذة، انصفق الباب. سكون الظّهيرة يعمّ أرجاء الغرفة المرطّبة بهشاشة الأوراق ورائحة ما تبقى من القهوة في قعر فنجان يرقد على حافّته كَسر نزل منه شق دقيق، كلما حلّ هذا السّكون تذكر غرفة إمرسون السّحرية:
_ ربّما تحتاجني نوبل ذات يوم؟ !
أزاح حمله وهو يتمايل من شدّة ما أثقل كاهله، لم ينس أن يرتّب الأشياء كما اعتاد، الكتب والأوراق فوق الطّاولة البنّية المرفوعة بأربعة قوائم مزخرفة في الزّاوية يمين النّافذة، وكظيمة الترموس المعبّأة شايا وعلبة الكوكاكولا في الزّاوية يسارا. لقد نسي الكوكاكولا. أنساه انهماكه في تأمين ربط الدرّاجة التنبّه إليها. هبط الدّرج، وجدها كما تركها، تحسّس برودتها فتذكر صوفيا عندما دفعت ثمن الهمبورغر وألحّت عليه بشرب الكوكا، تردّدت العلبة بين يديه، طرد صورة العم سام، خانته اللغة وغابت كل عبارات الاعتذار وغلبه لطفها، فغرغر زبد المشروب منتشيا بعد أن أرهقه عطش المدينة ساعة الظّهيرة، فاجأته:
_ رشيل كوري* هنا شربت قهوتها وكتبت قصائد الحصار والموت.
لم يشأ حينها أن يفتح حقيبة ذاكرته، هزّ رأسه ثم استند على ظهرية الكرسي ومدّ رجليه حتى كادت تلامسا رجلا صوفيا، وتساءل:
_ من تكون راشيل كوري؟ ربّما إحدى عابرات الشّارع تذكرّتها للتو.
شدّ بإحكام على علبة الكوكاكولا، صعد السلّم بتؤدة، قفز ثانية وجه صوفيا من بين أطلال الكوليزيوم، تبتسم لشمس روما وتحمل بيدها مشعل تمثال الحرّية بنيويورك. اقتعد درجة السلم الوسطى ووضع جانبا علبة الكوكاكولا، تفقّد أبراج رأسه، انهارت فوق أحلامه، وخرج من بين ركامها يتلو "قبر من أجل نيويورك"**.
_ لماذا نحب هذه المدينة الخراب؟
"نيويورك.. حضارة بأربع أرجل كل جهة قتل وطريق إلى القتل.. وفي المسافات أنين الغرقى."**
شعر ببرودة الكوكاكولا تختفي، وحرارة دماغه ترتفع، وبعد أن عاد إلى الغرفة، فرش أوراقه على سطح الطّاولة المحاطة بكنبتين عليهما غطاء أزرق سماوي ومساند مزركشة وَبَرِيَةُ الملمس، فتح النّافذة وغاب في سرحانه، قاربت الشّمس المغيب، وشيء من الشّفق أطلّ من بين قزعات الغيم المقبّبة النّازلة بظلّها على أعلى المئذنة، التي تبدو من بعيد والغيم يتحرّك فوقها كأنّها ترحل إلى السّماء:
_ المئذنة غيمة بمعايير أرضية.
نظر ثانية إلى نعليه، يتفقّد ربّاطهما، فقد ملامح صوفيا هذه المرّة، لم تقفز صورتها، لم تنط، فقط آذان المغرب انتشله من بين خطوط وجهها وحركة فمها وهو ينسج ظلال البسمة، ضغط على علبة الكوكاكولا، ولمّا لامست رغوتها جلد يديه سمع نداء مروان من أسفل يعلو الدّرج، سالت قطرات على نعله فتبسّمت صوفيا، وقفز وجهها من "قبر نيويورك"، استمرّ الأذان، بينما انهمك في مسح نعليه:
_ هل ترتاد صوفيا الكنيسة؟
أقفل باب الغرفة نازلا نحو الرّدهة، لم يكتب شيئا هذا المساء:
_ فقط وجه صوفيا كان معي حين هبطتْ الطّائرة على أرضية مطار وهران، فُتح الباب، الهبوب اللافح يجعل المدن متشابهة، كم تشبه مدينتي الصّحراوية وجه وهران.
غادر "مروان" ، نظر إلى الدّرج، كل درجاته تتشابه، متساوية، وباب الغرفة يطل من أعلى، وفي الأسفل، كل من مرّ يظل سجين نظام السلالم:
_ ما أصعب الصّعود إلى صوفيا !!


Post A Comment: