بجانبه كوفيتهُ "الخيزران" الملونه بألوان مختلفة وزاهية، وعلى يمينه تنام باكورته التي وقفت بجانبه عندما ذهب الجميع، كعادته الحاج دبوان، ينهض قبل أذان الفجر بساعة دون نغمة هاتف أو منبه مزعج، فتح عينيه ومد يده إلى تحت بطانيته المتواضعة وأخرج كشافه القديم، أضاء الغرفة ونهض ببطء، استقام ثم استدار وأخذ الخيزرانة ووضعها على رأسه ثم ربط حزامه القديم على خصره ولبس أحذيته وخرج.
- بسم الله، بسم الله، أصبحنا وأصبح الملك لله والحمد لله. بصوته الزخم الجهوري كان يردد ذلك وسط داره القديم وهو يبحث عن كوته الممزق، حصل عليه ثم اتجه نحو أسفل الدار.
- يا زهره اليوم في نفسي خبز (مرهي) " يتم طحنه يدوياً".
ردت عليه زوجته زهره من داخل غرفتها الصغيرة بصوت ناعس، فالمتقدمين في العمر تنام أجسادهم وأرواحهم لا تنام، يظلون يقظين بالرغم أنهم في سبات عميق، أدنى حركة وسط منزلهم يستيقظون لها وينظرون مالذي يحدث!
- تمام يا حاج تمام، يومي يومي مرهي، الله يقلعها نفس.
- أرجع من الجامع والخبز جاهز، ولا تنسي إن معانا ضيف نطعمه من زرق الأرض الي يقولوا مامنها فائده.
- تمام تمام.
أبتسم الحاج دبوان ثم خرج يداهم ظلام الليل بخطوات ثابتة، يشق عتمة الظلام بهمس الاستغفار وتارة بصوت باكورته المحدودبة كظهره، أصوات الحشرات تصدح من كل جانب، وهبات الرياح تداعب شعره الأبيض الذي يشع منه نور ينير الطريق إلى الجامع.
- صلاه يا عباد الله صلاه، كل واحد راقد جمب زوجته ولا له علم ماهو فضل هذا الوقت حسبي الله ونعم الوكيل بس. كان صوته يرتفع إلى السماء مع الملائكة ويصنع طريقاً منيراً بين قلبه والعرش، كلماته تزين الأجواء التي تحيط به، تذهب الهم من نفوس الشاردين، وتثبت الطمأنينة والسكينة، وتزيل الخوف والرعب والغموض.
كأنه ملك كريم بقامته القصيرة وثوبه المرقع، الذي يوحي ببساطة عيشته الكريمة، وصل إلى بوابة الجامع والذي يبتعد عن داره مسافة قريبة، فتح الباب وشج صوت فتحته الشتات المزروع في قلوب أهل القرية. الكلاب ينبحون بنحو غير معروف تلك الليلة، يتلفت الحاج دبوان يمنة ويسرة لعله يرى شيئاً غريباً لفت أنظار الكلاب، يسبح الله بهمس ويستعوذ من الشيطان الرجيم، سرت قشعريرة في جسده، وتشبث شعر رأسه بقوة، فتح خزان الماء ومسك بحبل الدلو، بدأ يدلوا الماء ببطء وهو يتلفت إلى يمينه ويساره. الكلاب يزدادون وتيرة ويزداد نباحهم، توافد كل كلاب القرية إلى أمام المسجد، عاصفة ذهنية جرت في ذهن الحاج دبوان. ما سبب تجمع الكلاب اليوم هنا؟ كل يوم لا أرى أي كلب؟ ما هو السر وراء هذا الغضب المحتدم في نفوس هذه الكلاب؟ هناك شيئاً غامض وسينكشف.
توضاء وسمع صوت بكاء طفل من مكان ليس ببعيد، ازداد الخوف في داخله، ولكنه كان يتغلب على ذلك الخوف بالاستغفار، نظر إلى الأعلى والاسفل لعله يعرف مصدر ذلك الصوت ولكنه لم يجده، مسح على رأسه وسمع صوت البكاء يزداد ولكن يبدوا أن الطفل الذي يبكي في أحد بيوت الجيران" هكذا فكر" الكلاب يحاولون الدخول الى ساحة الجامع ولكنهم خائفون من الحاج دبوان، ينبحون ويتعاركون في الخارج ويبكون بطريقتهم الخاصة.
أخذ الحاج دبوان باكورته وكشافه ثم اتجه ناحية باب الجامع، الآذان الأول صدح من جامع القرية المجاورة، أسرع الحاج بخطواته نحو الباب، توقف فجأة ولم يتقدم، شلت حركته نتيجة المشهد الذي أمامه، سلط الضوء إليه، مسح عينيه لعله يحلم أو أنه في خيال عابر، استعوذ من الشيطان لو أنه من صنع ذلك المشهد ولكنه لم يختفي.
تقدم ببطء وسقط الى الأرض على ركبتيه، مد يده وسحب ذلك الكرتون الذي رآه إلى أمامه، فتح الكرتون ونظر إليه، الدهشة تسيطر على ملامحه والاستغراب يحتل كيانه، مد يده إلى داخل الكرتون وأخرج ذلك الملاك الرباني، أخرج الطفل الذي كان مغمض العينين، كان ملفوف بحجاب نسائي أسود، قبله وقرب أذنيه من قلبه لينظر هل ما يزال على قيد الحياة أم لا، فالبرد كان في أعتى صورة، كان الطفل وكأنه خرج من ثلاجة للموتى، أبيض ناصع البياض، وجهه مستدير وعينيه مغمضتنان، فكر الحاج دبوان" يبدوا أن الطفل قد وضع هنا قبل ثلاث أو أربع ساعات" وضعه في الكرتون ثم حمله وتوجه عائداً نحو داره، لسانه تدعو الله أن يظل الطفل على قيد الحياة، يخطو بخطوات كبيرة ومستعجله حتى وصل إلى حوش داره.
صوت طحن الحبوب من الداخل يخترق جدار الدار، كانت زهره تطحن وتغني أغاني الصباح، ويبدوا على ملامحها الاستغراب من عدم سماعها صوت دبوان وهو يأذن، لسان حالها يقول : ليش ما قد اذن دبوان، يا ساتر يا الله ؟ طرق الحاج دبوان الباب ودخل وتوقفت زهره عن الطحن مستغربة مندهشة من رجوع الحاج دبوان هذه الساعة ولم يأذن أو يصلي في المسجد.
يحمل على ظهره كرتون ويتوكى بباكورته ويبدوا على ملامحه الدهشة، وضع الكرتون ببطء ثم سلط الضوء عليه وفتحه وزهره تشاهد بصمت مطبق، نظرت زهره نحو الطفل وأخذت شهقة كبيرة وغطت على وجهها بكلتا يديها، ثم اتجهت نحو الطفل.
- وين حصلت الطفل ودبوان؟
- أمام الجامع، الكلاب قد كانوا متجمعين يشتو يأكلوه.!
أخذته زهره ورفعته إلى أمام وجهها ثم اعادته إلى الكرتون وقالت :
- مات، مات من البرد يا حاج دبوان.
بكاء الحاج دبوان كطفل يبحث عن لعبته ولم يجدها، بكى على ذلك الطفل البرئ الجميل الذي لا يعلم ماهو ذنبه ولم تم وضعه وسط ذلك الكرتون ووسط البرد القارص.
- فات الاوان يا حاج دبوان، أستغفر الله العظيم على الذي ما يزوج بنته ويسترها.
- وعادهم يا حجه زهره، اليوم البنات لولا الحياء لذهبن بعد من يحببن.
- خلاص كيف نعمل به الآن!
- نقول زوجة ابننا الذي روح من المدينة أمس ولدت ومات.
- استغفر الله العظيم على هذا الإجرام.
- اجرام بحق الطفل والام والمجتمع والدين والبشرية جمعاء.
تمت


Post A Comment: