لو يكن أحمد يدري أن القدر سيرمي به في هذه المدينة الصغيرة التي تغوص وسط جبال الأطلس بعدما ترك مدينته وسلجه الطفولي العذب بين شوارعها الفسيحة فقد صارت المدينة غول يلتهم أحلام الشباب الطامح للحرية والمتعطش لبناء مستقبل زاهر، اشتدت رغبته في التغيير  و قرر الهجرة، غادر المدينة وهو لا يملك ثمن تذكرة الحافلة. 
في محطة الحافلات صعد أول حافلة تتدحرج عجلاتها وهي توميء على مغادرة المدينة، لا يعرف وجهة الحافلة، رحلته كانت بدون عنوان عريض،  هاجس مغادرة المدينة والبحث عن تراب خصب وهواء نقي يجعل حلمه يترجل من اللاشعور ويصر حقيقة..
 اتجه نحو مساعد السائق يخبره برغبته في السفر لكن النقود التي يملك قد لن تكفيه لدفع قيمة التذكرة، نظر مساعد السائق في أحمد وهو يستطلع حاله و يطالع هيئته، وبعد برهة أطلق ابتسامة خافتة وهو يأمره بأخد مكانه بين الركاب؛ وانطلقت الحافلة تطوي المسافات تابعا.. 
غفا أحمد في نوم عميق ولم يستيقظ إلا على صوت حفيف الركاب وهو يهمون بالنزول، وكان هو آخر من ينزل من الحافلة. ترجل من الحافلة يتأبط حقيبة ملابسه الرثة بعدم صار لونها الأسود شاحب يميل للحمرة.. مد نظره في السماء يجول في الأفق البعيد وكأنه طائر خرج لتوه من القفص، أدهشه الأفق الفسيح وهو يحاول الطيران في الفضاء الرحب واستنشاق عبير الحرية ولأول مرة يرفرف بجناحيه ويطير نحو حلمه في الطيران
...
تنفس أحمد بعمق وكأنه ذلك الطائر في الحلم، وأطلق ساقيه للريح يخطو بخطى وئيدة كأنه يحمل الجندل وغادر محطة المسافرين، لم تكن له وجهة محددة يقصدها ولا يعرف أحد في هذه المدينة، حتى الإسم  سمعه لتو من مساعد سائق الحافلة وهو يصيح وصوته الخشن يملأ الدنيا صخبا وهو يأمر الركاب بالنزول، وعند بوابة الحافلة يقف أحدهم يصيح: مرحبا بكم في عروس الأطلس المتوسط...
مدينة الجمال
الهدوء والطيبعة الخلابة، الجبال وأشجار الصنوبر والأرز تخفق لكم من صدر الجبل ترحب بضيوفها.. 
وبعدها انقطع صرير الصوت واختفى الشخص
..
لأول مرة يسيح أحمد في شوارع مدينة هو غريب فيها، يمشي بلا هوادة، بدون وجهة محددة، استلبه هواء المدينة وسيكنتها  وهو الذي شب في مدينة يتدفق ضجيجها بحرا ولا ينقطع نهارا وليلا إلا في ساعات متأخرة من الليل وسرعان ما يعود قبل طلوع الفجر.. كانت المدينة تلبس رداء الهدوء التام وما يزيدها بهاء غابة الصنور من الشمال وفي الجنوب والغرب تطل أشجار الأرز وهي تتربع صدر الجبل وقممه العالية تعانق السحاب وتناجي فساحة الفضاء.. 
انتهت زوبعة أحمد وشغفه بالمدينة إلى حديقة عمومية فقد نال منه التعب القسط الوفير،  افترش  حشيش الأرض واستلقى يتسجمع طاقته، جسده النحيف خارت قواه ويحتاج للقليل من الراحة.. 
كان فصل الخريف ودرجات الحرارة تنخفظ مع حلول الليل، لم يكن لأحمد صديق في المدينة وهوغريب لا يعرف أحدا ولا يملك نقودا لكراء غرفة تقيه حر البرد القارس وتقيه شر الخلق الذي يخرج بالليل.. توسد حقيبته و أسلم أمره لله وحاول أن يغوص في نوم عميق، لكن الرقاد جفاه وظل يتقلب في مكانه يمينا وشمالا وهو  يحاول أن يغوص في حلم سرمدي يذهب عنه غربته.. 
صوت رخيم ينتشله من حلمه ويعود به للحديقة:
السلام عليكم ورحمة الله 
اعتدل أحمد في جلسته ورد بأدب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته 
لحظة صمت وكأنه عمر مديد، سنوات عجاف وجدار صمت سميك يوشك أن ينهار
كيف حالك أخي، أنا اسمي الحاج مبارك
الحمد لله يا عماه، يجيب أحمد ويضيف
 وأنا أحمد، أحمد حللت بالمدينة ضيفا
 إنها جميلة لم يسبق لي زرت مثيلتها من قبل.. يبتسم
مرحبا بك ولدي نحن إخوة، حللت أهلا ونزلت سهلا  يقول الحاج امبارك
تحشرج أحمد في الرد، وقد أحمر وجهه واعتراه الخجل لولا الظلام الذي أخفى ملامح الخجل لبدى وجهه شديد الحمرة:
أشكرك كثيرا عماه.. 
العفو ، مرحبا بزوارنا الكرام 
ألذيك مكان تبيت فيه.. يسال الحاج مبارك
صمت أحمد قليلا قبل أن يقول: اظن أن المبيت هنا شيء يثير فضولي.. ويبتسم برفق يخفي حاجته لمكان يبيت فيه. 
الجو بارد يا بني ودرجات الحرارة تنخفظ في الساعات القادمة. 
هناك لنزل قريب هناك يأوي كل عابر سبيل تقضي فيه ليلتك. 
كان كلامه كقطعة ثلج نزلت على أحمد، أخيرا سينعم جسده بدفء ويغط في نوم عميق.. 
رافقه دون تردد وهما يسيران نحو النزل يتبادلان أطراف الحديث.. 
استيقظ أحمد في الصباح الباكر، تناول وجبة الإفطار وغادر النزل شاكرا المعروف للمقيمين على شؤونه وراح يتجول في شوارع المدينة ويسيح بين أزقتها وبينما يحاول عبور الشارع لمح بصره الحاج مبارك في محل كبير لبيع الأثاث المنزلية.. 
وقف يرقب من بعيد الحاج مبارك وهو يقوم بعمله، عرف أنه يدير متجر كبير لبيع الأثاث المنزلية وماهي إلا برهة حتى قدم إليه شاب يخبره أن سيده الحاج مبارك يطلبه على عجل. 
كانت الفرصة سانحة لأحمد لتقديم الشكر للحاج مبارك، لكن بادره الحاج بالقول إذا كنت ترغب في العمل التجاري مرحبا بك مساعدا لي في المتجر!!
انهمرت مشاعر الرقة على أحمد وكاد يجهش بالبكاء تمالك نفسه وطأطأ رأسه  وهو يهمس: موافق. 
لم يكن ليترك تلك الفرصة تضيع له وهو الغريب الذي غادر مدينته بحثا عن عمل.. انظم لبقية العاملين في المتجر وانهمك بجد في عمله وسرعان ما لقي الثناء وحضي بإعجاب الزبائن بابتسامته الوديعة وهو يقوم بخدمة زبائن المتجر .. 
كان محط ثقة الحاج مبارك، كتوم لا يبوح بسر أخبر به مما زاد من ثقة مشغله، فقد شاء القدر أن يصاب الحاج مبارك بمرض لزمه شهورا طريح الفراش فأوكل إدارة شؤون المتجر لأحمد الذي أحكم تدبير شؤونه بقوة وحكمة، صارم حد الحزم وشديد الرأفة لكن ليس لحد الغفل، سهر على سير العمل التجاري في غياب الحاج مبارك، لكن المرض اشتد على الحاج مبارك وقرر السفر نحو أوربا لتلقي العلاج.. 
استدعى أحمد لمنزله وأعطاه توكيلا ينوب فيه عن كل معاملاته المالية والتجارية لحين عودته، لكن زوجة الحاج مبارك رفضت بشدة، فقد يكون أحمد طامعا ويستولي على إمبراطورية المال والتجارة التي بناها الحاج مبارك وكلفته سنين عمره، لكن لكن هذا الأخير أصر على فعل ذلك فأحمد من ثقاة الناس أمين يحفظ العهود، ورحل صوب أوربا في رحلة بحث عن العلاج، بعدها بشهور قليلة انقطع الاتصال مع الحاج مبارك وطال غيابه لأربع سنوات، حتى ظن البعض أنه توفي وتسرب الشك لعماله الطامعين في ثروته فلا ولد يرث عرش تجارته وأملاكه... 
 وانهالت تبريكات العمال لأحمد فهو من استوثقه وأنابه الحاج مبارك على أملاكه وتجارته واستودعه أمواله.. 
طمع العمال يلاقى بصلابة أحمد وحزمه في كبح جماح نفوس العمال في الاستيلاء على ثروة الحاج مبارك فهو من شلغهم وأخرجهم من دائرة الفقر،  لم يكن متاع الدنيا وأموالها هاجس أحمد ولا الغنى والترف غايته، فقد كان يعمل من أجل كسب قلوب الناس وليس أموالهم، قنوع وزاهد في الحياة، الوحيد من بين العمال ظل متشبتا ببصيص الأمل في عودة الحاج مبارك مهما طالت مدة غيابه. 
وذات يوم مطير بينما أحمد في طريق عودته للمنزل  كان يداوم زيارة الحديقة ليتذكر لقاءه الأول بالحاج مبارك في تلك الليلة الباردة، وقف ينظر للمكان الذي كان استلقى فيه أول مرة وأحن العودة إليه ليستلقي في نفس المكان نحن كائنات تحن للبدايات وترتبط وجدانيا بالمكان حيث يكون اللقاء الأول، لكن يد الحاج مبارك كانت تربت على كتفه وهو يقف وراءه متخفيا في جلباب فضفاض، استدار أحمد ورمقت عينيه وجه الحاج مبارك اختلطت المشاعر محدثة فوضى عارمة، سيل عرمرم من الأحاسيس المتدفقة فرحا، تجدد الوصال بينهما وإرتمي أحمد يعانق الحاج بشوق المغترب لأمه، تحول لطفل صغير في حضن الحاج مبارك وقد تبددت كل تلك القسوة التي كان يمتلكها في غيابه وغدا  كطفل صغير في حضن والده، اتجه صحبة الحاج مبارك نحو النزل الذي أقام فيه ليلته الأولى حيث إكتشف أن هذا الأخير  في ملكيته الحاج مبارك وضعه رهن إشارة كل عابر سبيل.. 

في الصباح الباكر هم أحمد للمتجر كعادته، مفعم بالحيوية، البسمة تعلو محياه فرحا بعودة الحاج مبارك. قدم هذا الأخير للمتجر، اجتمع حشد من العمال لتهنئته بعودته الميمونة بعدما زف لهم أحمد الخبر، وراح يتجول أحوال المتجر ويفتحص أمور الإدارة، سلمه أحمد سندات المال وتوكيله على إمبراطورية وأطلعه على كل صغيرة وكبيرة.. علا شموخ الحاج مبارك وعظم تقديره لأحمد فقد كان محط ثقة كبيرة صان الأمانة مبددا مقولة زوجته التي كانت تردد مملكتنا على كف عفريت.






Share To: