عاد إلى البيت مع الغروب محملا بكرطونة كبيرة، استمات أمامهم في رفض فتحها حتى يجتمع الكل، ويتفكرون قبلا ويحزرون بما عساها أن تكون  محملة في جوفها، في ليلة عطرتها الوالدة من المطبخ برائحة حساء الشعير اللذيذة، وقسعة طينية كبيرة  مملوءة بخليط بهي من الحلويات والمكسرات والتين والزيتون والتمر الجاف، فقالت الكبرى من اخواته وقذ جذبها عطر القدر من غرفتها إلى المطبخ بعد أن نحت هاته النقال عن أذنها:

- آه أمي نسيت أن اليوم هو (راس العام) ! 

ورد الأمرد المتمرد أو كما ينعته كل أفراد الأسرة بعد أن نزع عنه نظارته الطبية ونحا وبناظر عن كتاب التاريخ الذي كان يطالعه:

- رأس العام تجاوزناه منذ أسبوعين ونكاد ننزلق إلى صدره أو سرته، هو الزمن قد صار مخيفا، بعد إذ بات كالتنين برؤوس عدة تنفث من أفواهها نارا! 

لكن قبلة حيرة الجميع وتساؤلهم مما تحمله الكرطونة فقد احتاروا من شاكلة ملبسه، فهو الوسيم الطويل العاشق للجينز ومعاطف جلد البقر الأسود، لماذا اختار لباس جده وعمامته المذهبة المكورة على طربوش تركي قديم، وعباءته طويلة تحيط بها من موضع الخصر لفة غليظة من القماش، وبيده تلك الخيزرانة الصلبة من الزيزفون المصقولة لتوها والمصبوغة بالطلاء اللامع، يتصاعد إلى رأسها المعكوف ضفيرة نقوش حلزونية على شكل افعواني.

رمقه كل من حضر بشيء من الحذر، بعضه قال ليس ذلك سوى حنين من أثر السنين التي يقيضيها في الخارج، بينما رأى فيها البعض الاخر مؤشرا على أنه فقد شيئا من توازنه العقلي أو يكاد، خصوصا وأنه لا يفتأ يبتسم بسبب وبغيره عكس ما كان عليه حاله قبل أن تضمه البعثة المرسلة للدراسة بأمريكا.

ووالده الذي كان سياسيا بالفطرة، ومناضلا قديما بالتجربة، وإلا ما وقع عليه الاختيار للدراسة خارج الوطن، كان يدرك استحالة أن يُحضر اكتشافا أو اختراعا من أمريكا، فمجرد انجازه في سر باغرفة بالاقامة الجامعية ببوسطن ضرب من المستحيل فما بلك بالمرور به من مطار إلى آخر!

أما هي فلم تهتم كثيرا لما سيكشف عنه حالما يكتمل تعداد الافراد، للاحتفال براس العام، كونها اكتشفت أنه لم يعد مهتما بها منذ عاد قبل أسبوع، قبل أن يزر المزرعة  التي باتت بورا بعد وفاة الجد، هي التي كانت تمني النفس بأن يتحدث عن اجراءات الزواج وترتحل معه لتمارس الصحافة هناك، من خلف زجاج ناطحات السحاب السامقة، مثلما كان يروي لها ويريها من صور وحكايات عن عالم أمريكا الذي لا يكاد يتصل بمجرتنا.

شعرت بكل شيء قد تغير فيه وهي التي تحفظ عديد أسراره وحركة الاشياء في أحشائه مذ تكفل بها وعمها وصارت جزء من البيت تدرس وإياه في ذات القسم بالمدرسة وذات الغرفة بالبيت.

- هيا اكشف لنا عن مكتشفك..

- ليس قبل أن تقطعوا تيار الكهرباء!

ارتج الجمع، فتساءل الوالد:

- بمَ نستضيء؟

وردفت الأم متسائلة؟

- وبمَ نتدفى؟

- لا تقلقوا الاكتشاف سيغنيكم عن الانارة والتدفئة.. 

تبسم الوالد، قائلا:

- هذا جيد على الأقل أن تكون عقلا للعائلة إذا ما رفضت الأمة أن تكون عقلها، توفر عنا تكاليف فواتير الغاز والكهرباء.

قالت الأخت الكبرى متهكمة:

- في انتظار أن تكتشف لنا مصدرا لطاقة السيارات، وهكذا نفلت من طوابير المحطات بهاته المدينة المزدحمة!

قام الأصغر مسرعا إلى عداد الكهرباء فضغط على زر القطع فاستحال البيت إلى ظلمة مطبقة، لم يعد أحد يرى عضوا من جسده فكيف يرى الاخر، أرخى جميعهم السمع، والصمت يتصاعد، حتى لا تكاد نبضات القلوب تسمع في المجمع، فقط صوت طرق على الأرض قادم من عديد بيوت الجيران، شيء يشبه ضرب الحجر على قوقعة الجوز وصدفات اللوز، ثم أخذ صوت تفتيح الكرطونة الكبيرة يمزق ذلك الصمت، ففاحت منها رائحة تشبه رماد الحطب، صدر صوت شبيه بصوت وقوع خشبة.. تراخى الحماس، وانحبست الانفاس.. فإذ به يشعل عود ثقاب ويرمي به في صحن موقد العائلة القديم فيشيع نوره الخافت على المجمع دون أن يصل الزوايا البعيدة للصالة الشاسعة التي اختفت زخارف خزفها العالقة على جدرانها العالية، ومنمنمات بلاطها الاسباني، بل حتى مائدة الطعام الفلينية الأخادة انتحت وسط ذلك النور القديم المنبعث من موقد الجد ذي الطاقة الحطبية..

تبدت من خلال ذلك النور الزيتي الخافت المتصاعد من صحن الموقد، تعابير متضادة على وجوه لم تعد ترى منها سوى الجباه والعيون، ابتسامة من عيني الأم وعاطفة للزمن من الأب.. من الأخت الكبرى دوت ضحكة عالية أما الأصغر فضل ممسكا بحجرة التيمم التي كان يستعملها والد بعدما أعجزه العمر والمرض عن الضوء، حتى يكسر بها قوقعة الجوز، يرمي بالنظرة تارة ترى وجهه تارة تجاه وجوه الأخرين، في حين أعاد الأمرد نظارته وهو يداعب بالشعيرات القليلة التي تتدلى من ذقنه ممازحا بالكلام:

- لم أتصور أن يحدث فيك الكتاب الذي أرسلته لك كل هذا التأثير!

ففهمت هي للتو سبب مجيئه في عطلة الشتاء لأول مرة من أمريكا، فقالت وهي تقوم من مقامها، واضعة راحة يدها على خيشومها متقززة من رائحة الموقد الحطبي القديم قالت متهكمة..

- احتاج إلى الكهرباء لأتم مقالي بالحاسوب وأرسله عبر النت!

 








Share To: