اختار ٱلشّاعر " محمد اللغافي" أنْ يُصدِّر كتابه ٱلشّعري" " ٱلْكرسي" بقلمه قائِـلا :

إلى ٱلْأَصابع ٱلْحالمــة
أصابع بَترَها مِقَص ٱلْبِطالة
بدءا من مقهى رجيانا..سيدي مومن
إلى شرق ٱلْبِلاد وغربها
شمالها وجنوبها
كان بودي أن أعانقكم واحِداً...واحداً
ولأنّي لاأعرف كيف ذلك 
أكتفيت بتقبيلكم دفعةً واحدةً

أول ماتقع  عليه عينيك عنوان ٱلْكِتاب :"ٱلْكُرسي"، هذه ٱلْوسيلة التي ٱرتبطت بحُمولات دلالية كثيرة، فٱلْكرسي قد يكون كرسي مجد، سلطة ونفوذ، وقد يحمل حمولات دلالية سلبية فيرتبط بٱلْعَجْز وٱلْعطالةِ وعدم ٱلْقُدْرة على ٱلْحركة وٱلْحراك ...ومادام ٱلْكُرسي جاء هنا اسم 
معرفة؛ فهو دونما تثريبٍ يحِيلُ على أنّ ٱلشّاعر عارفٌ ومدركٌ  تماما لطبيعَةِ هذا ٱلْكرسي ٱلذي يتحدّثُ عنه ، ملم بطبيعته وكُنْهِهِ.

ٱلْكُرْسي تِجْوالٌ فِيوحَيَوات ذَاتٍ أنْهَكَها ٱلزّمَن ٱلصَّدِئ ..ٱلشّاعر "محمد ٱللغافي" يرسُمُ لوحات ٱلذُات بِلُغَةٍ شِعْريةٍ يغلِبُ عليها ٱلْقالب ٱلْإستراجاعي ،إذْ يسْترجِعُ ٱلْمساءات وٱلْأماكن وٱلْمشاعر ٱلْمُنْتفِضَةِ حِيناً، ٱلْخَائِبَةِ أحْياناً أُخْرَى.

يقول في : " لَغَم .. يَتَنَفَّسُ في ٱلرِّئـة" 

كم يلزمنا من سلحفاة
كي..نَعْبُر ٱلٰمَسافات
ٱلْوقت حرج هذا المساء ....
حتى طائر ٱلسّنونو ..
لم يعد في حاجة ..إلَى لَمِّ حقائبه
نَزِيفٌ عَارِم
دم..يتدفَّق من بؤر ٱلضَّوْء
وٱلنِّسَـاء..كما ٱلرِّجَـال
يتنفّسْنَ نِيكُوتين ٱلْعالَـم

فالعالم دَمٌ، نزيفِ ،نيكوتين ، هو عالم يتنفس ٱلْألم وٱلسُّموم.
يقول أيضا في ص 8 من نفس ٱلنّص:

رصاصة طائشة.. تعبر ٱلْبياض
وتستقر في نقطة ٱلْعَيْن
وجه ممسوح ..يتفرس ملامحه في ٱلْماء
وٱللّغم يتنفس
ٱللُغم مازال يتنفس في ٱلرِّئَة

ٱلْملحوظ هو ٱلْحُضُور ٱلْمُكثف لمعجم ٱلْمشاعر ٱلْمُخْنَوْنقة بلغم ٱلْحَياة.

وبعيداً عن نزيف ٱلْحَياة وسُمُومِها وقذراتها وأَصْدائها، نركب مع ٱلشّاعر مَرْكَب ٱلْعِشْق ، بَيْدَ أنَّهُ عِشْقٌ مُطَعَّمٌ بِنَكْهَةِ ٱلْمَوْتِ.

وقد ٱرتبط ٱلْعِشْق  بأماكن بعينها " سيدي مومن"، " اخريبكة" فيشاركنا ٱلشّاعر "محمد ٱللغافي" في بوثقة نبضه ، مشاعره ٱلتي غالبا ما تنتهي به إلى ٱلْاستسلام وٱلضّيَاع في علبة سجائر ..فهو يهرب من عواطفه، نوازعه ..إنه يُلْقي بنفسه أسير إدْمان آخر.

فعلبة سجائر لنْ تَكون أرفق به من عِشق امرأة ،إذْ تسقط أصابعه الكثيرة فيها.

يقول في ٱلصّفحة 30 من ٱلنّص ٱلشّعري ٱلْموسوم بـ:" جسي نبضي":

آه،ضعي يدك على صَدري، .. وأخبريني عن عدد 
ٱلتكتكات..

هو يرنو إلى أن تجس" هي"  نبضه، أن تدغدغه لتُدرك وتعي طبيعة ٱلْمشاعر ٱلتي تجتاحه وتختلج في دواخله.
وينتهي إلى ٱلْقول في ٱلنّص ذاته ص 30:

لِمَ حين أَحْتسي ٱلْأسف..تختلج ٱلْعواطف وتسقط أصابعي ٱلْكثيرة في علبة سجائر.

وفي ٱلنّص ٱلشِّعري ٱلذي ٱجترح له عنوان:" اقتليني بمودَّة" ، يجتمع ٱلنّقيضين، ٱلْقتل وٱلْمودة ،يدعو ٱلشّاعر محبوبته إلى قتل جميل؛ ٱلذّات ٱلشاعرة تتوقُ إلى ٱلْانغماس في لحظة ود وحُبٍّ.

هو ٱلشّاعر ٱلذي يُعانِقُ رحابة ٱلشِّعر ليكشفَ لنا عن ضياعه وشرودِه في عوالم ٱلْعِشْق ٱلْمُسْتحيلة،ٱلتي غالبا ما تضيع ويقتلها ٱلْوقت ٱلرَّتيب وتتبَدَّدُ لِأَنَّ ٱلشاعر زئبقي، طريقه 
مُوحشٌ،موغل في أقْمِطة ٱلتّأسفات، يمُوت ٱلْعِشْق في ظل عطبٍ فِيزْيُولوجي أعلن عنه ٱلشّاعر في قصيدة: " بيني.. وبينك أكثر من جسر"

ورد في ص 33 من ٱلْكِتاب:

لأصلَ إلى سِرّك ٱلْمُقْفَل ..أو لتصِلي إلى خبايَاي ٱلزِّئبقية.. كم يلزم من تطابق في ٱلْأليَـاف؟!..

 فكم هاهنا تُومِئُ إلى أن ٱلشَّاعر مُدركٌ تَماماً لحجم ٱلْهُوة وٱلْبَوْن ٱلشَّاسِع ٱلذي يفْصِلُ بيْنه وبينَ ما يُنْشِدُهُ.

وما ينشده هنا من باب ٱلتأويل وٱلْافتراضِ قد يكون امرأة ، أو حب ، أو حَياة هَنِيئة، أو فكرة شاردة،،،

وبٱنتقالنا إلى نصٍّ آخَرَ اجْترح له ٱلشّاعر عنوان:" أخاف ٱلشُّرود في عينيك" ص 34 من ٱلْكتَاب.

نلمس أنّ ٱلشّاعر شريد،ضائع يُرتِّلُ قَصِيدة عشق تنْمَحي معها وتزول تآويل ٱلْفقهاء، فكأنَّ بٱلذّات ٱلْمَعشوقة لوحة ناطقة بآيات ٱلْجمال تأسره  فتستهويه نشوة ٱلْانهيار.

جاء على لسان ٱلشّاعر في ٱلنّص ٱلشِّعْري ٱلذي ألمعت إليه آنفا ص 34:

...
في وجنتيك ٱلْورديتين ..تتبخر تآويل ٱلْفُقَهَاء

...

لكن ياصديقتي ..في مقلتيك أقرأ أسرار موتِـي..
مفعمة بٱلنِّسيان..
أخاف أن تذبل ٱلْمواقيت في ترتيب يومياتنا
فتستهويني نشوة الانهيار. .
أصَادِفُنِي شريدا ..أقاسم ٱلْأرصفة نفاياتها
...الخ.

قَمِينٌ بٱلْقول أنَّ ٱلشّاعر يَرْسُمُ أفضية،صُوراً ،عوالم فهو يعمد إلى حجزِ مكان لأولئك ٱلذين ضاعت أمكنتهم.

وفي نص رؤيا ص 12 يقول :

أتعب..

أَنَـام..

تورق نرجسة ٱلْأحلام
فأرَى ..فيما أرَى..
أرى..
تَحْتَ ٱلْكُرْسي..رُكاماً من ٱلْأوهَـام
وفَوْقَ ٱلْكُرسي ..رأسا ورما ..وهنداما
ينْتَفِضُ الكُرْسِي..

في هذا النص الشعري يكشف لنا الشاعر عن علاقته بالكرسي التي يسمها بأنها تتجاوز ٱلْمودة.

فهو يطلب ٱلْكرسي ، لكن هذا ٱلْأخير بعيد ٱلْمَنال.

يقول في ٱلصَّفحة ٱلْمُشار إليها أعلاه ص 12 من ٱلْكتاب.

بين أَصَابِعِي وٱلْكُرسي ...أكثر من موَدّة
لكن ٱلْكرسي في مكان
      وأصابعِي 

                  في مَكـــان

وتبقى هاته ٱلْفضفضات مُجرد رؤيا شاعرية،فٱلْقصد ها هنا ٱلْاقتصار على ذكر ٱلْموضع وٱلْمَكان" ٱلْكرسي" ، في حين يقصد ٱلْجالس عليه ..وهذا ٱللاَّوُضُوح، و ٱلتَّشْويش على ٱلْمعنى هو دعوة للمتلقي ليَغُوصَ في ٱلتّنقيب وٱلْكشْفِ عَن ٱلْمعْنَى ٱلْخَفِيّ ٱلْمُضْمَرِ.

وبِحِبر أَيَّامِ ٱلْأُسْبُوع ينْقلُ لنا أحاسِيسه ٱلْمتباينة في ٱلصُفحات من 13 إلى 16.

فٱلْاثنين صباحه بني، تؤثثه غيمات حمْقى وٱلظّل وٱلْبحر وٱلْمِرآة التي لاتتبَيَّنُ بوضوحٍ أبجديات ٱلْمَلامِح.

يقول:

صباح ٱلْاثنين ٱلْبُنّـي

ووجه..

طافح في فضاءات ٱلْمِرْآة
ٱلْمِرآة ٱلتي .. تتهَجَّى أبجديات ٱلْمَلامِح
ٱلْمَلامِح ٱلتي..ترغب في عملية تشْطِيبِ ٱلظِلِّ
...الـخ.

في حين ٱلثلاثاء أصفر،تداعيات،حُمْقٌ

ورد في يوم الثلاثاء ٱلصّفحة 14 من ٱلْكِتاب:

     ٱلثّلاثاء
وثيقة ٱلثلاثاء ٱلْأَصفر..تروج تداعيات
تهوي..بكل ما لديها من حُمْق ..على رأس ..أنهكته 
شساعة ٱلْوقت
ٱلْوقت ٱلذي من ذهب..
ضبطوه ..من حصيلة ٱلْمَسْرُوقَات ..في حقيبة ديبلوماسية.

وإذا ما حاولنا ٱلرّبط بين هذه ٱلْمُفردات يُمْكِنُ أن نستشف طبيعة ٱلْإحساس ٱلْمُهَيْمن على نفسية ٱلشَّاعر.

أما ٱلْأربعاء فقد ٱقترن بٱلْغضب،وبحضُورِ ٱلْأسود وبٱلْأخطاء ٱلْمُفضية إلى ٱلْهَزيمةِ،فهناك ربطٌ تَسَلْسُلِي بين ٱلْمفردات فكيف للضَّحْكة أن تكون غاضبة؟!.

يتجلى ٱلْخميس في قبلةٍ عنيفةٍ وبرقيةٍ ولون أخضر وهذا مؤشِّرٌ على ٱلْحياة وٱلْعَطاءِ وٱلتّواصُل .

ٱلْجمعة، يوم ٱلْانفلاتِ من عقربِ ٱلسّاعة ٱلذي توقف في مُنْتَصَفِ ٱلْكأْسِ، وهذا يَشِي بِتَكْسِيرِ خَطِّيةِ ٱلْأَحداث، ومنح فرصة جديدة للظَّفَرِ بٱلشَّيْء ٱلْمَرْغُوبِ فِيهِ،ٱلذّات تتجه 
صوب موضوعها.

يقول في ٱلصّفحة 15 من ٱلْكتَاب:

      ٱلْجُمُعة

عقرب ٱلسّاعة ..توقف في منتصف ٱلْكَأس ..

ماذا..لو ..بَحَثْتَ عن .. حقيبة ..غير هذه ٱلتي تحمل 

أصابعك

..ورحلت..إلى ٱلشّطر الثاني من ٱللَّيل..

بِدُونِ شَكٍّ ..ستثقن ٱللُّعبة بلا أصابع.

أشعار ٱلشّاعر هي خواطر شعرية تجتاحه ويجتاحها، فترتسم حروفاً مُعبِّرة عن مشاعره ٱلْمُختلفة وٱلٰمتناقضة:

يقول في نص " اعتبار " ٱلصّفحة 28 من ٱلْكتاب.

أن تجمع ٱلشّوارع في جواربك ٱلْواسعة..  لا يعني أنّك 
 رسمت وجهك... في وجه ٱلْمدينة..
...الخ.

فٱلشّاعر رغم خبرته بٱلشَّوارِع ومعرفته بها،فهو مايَزالُ عاجزاً عن رسم قدرهِ وتثبيث خُطاهُ ٱلْوئِيدة ٱلشَّريدة.

ويقول أيضا:

أن ..تكون مِنديلاً في كَفِّ ٱلرّيح ...لاتستطيع أبدا أن تمسح ٱلْعَرق من جبين ٱلشّمس..

ويوظف ٱلشّاعر الأبراج : ( ٱلْحَمَل، الثّور،ٱلْجوزاء، ٱلسَّرَطان، ٱلْأَسد، ٱلْعَذراء ،ٱلْمِيزان، ٱلْعقرب،ٱلْقَوْس ، ٱلْجَدْي،ٱلدّلو،ٱلْحُوت ) من ٱلصّفحة 17 إلى 23 من ٱلْكتاب ليكشف لنا عن موجة ٱلْمشاعر ٱلتي تنتابُ وَتَعْترِي ذاتـه.

يقول في ٱلصّفحة 17 في برج " ٱلْحَمَل"

لأجلك..ولأجل حرب ٱلْإشَاعات ٱلْمُغتصبة في عينيك..

ولأجل امتداد عمرك ٱلْعسير..

إلى أن يقول:

ضحكتك نيزكة ضالة

ضحكتك..أسرار مرتبة..في مواعيد مُهْملة.

فٱلْعُمر عسير..وٱلْجسدُ مُنْهَكٌ خلال بِدايةِ ٱلسّنة ،حتى ٱلضَّحكة تغيب،تَضِلُّ سبِيلها إليْـه.

إذن تتلون مشاعر ٱلشُاعر مع كلّ بُرجٍ ، ففي برج ٱلْعذراء يفرُّ إلى عُلْبَة سّجائر لِتُخْمِدَ خفقات قلبه.

وفي ص 22 أي في برج "ٱلْجدي"

يقول ٱلشّاعر:

يثثاءب حذاءك ٱلثَّقِيل 

وقدمك ٱلتّافهة..

ما زال يُداهِمُها ٱلرَّحِيل.

ٱلشّاعر يعلنُ أنه ما يزالُ تائهاً،ضائعاً ،وئيد ٱلْخُطى.

إن ٱلشّاعر "محمد اللغافي" يغزل على وترِ ٱلْحرف سمفونية حياته، تسكعاته في متاهاتها، في شوارعها وأفضيتها وأزمنتها ..فتتجسّدُ زفَرات رُوحه شِعْرا،فٱلْقصيدة تحملنا إلى عوالم ذاته ٱلْعميقة لتتولد  وتتناسل أبعادا دلالية عدة.

هو ٱلْوعي ٱلشِّعْري ينقلُ لنا ٱلْواقع فِي كُلّ تجلياته وتمَوُّجاته وتَنَاقُضَاتهِ وتراكماته.

ٱلْهوامش:

محمد ٱللّغافي : شاعر مغربي عصامي له عدة إصدرات شعرية منها : 
- ٱلْكرسي؛ 
- سقط شقيا؛
- عصامي يطلق لعناته؛
- مثل أخطاء طفيفة
وكتابات أخرى..
رئيس جامعة ٱلْمبدعين ٱلْمغاربة؛

     
                         






Share To: