يمشي بخطى متبخترة نح والفصل الدراسي، لم يشأ الحضور اليوم للمدرسة لكن سلطة الإدارة ورغبة أمه الجامحة في التعلم دفعته للحضور، فأمرها مطاع لا يمكن رده. في داخله بركان متموج يخفق هيجانه مدا وجزرا وكله جموح لعدم الحضور، والحصة المقررة هذا الصباح مخصصة بالتربية الإسلامية،
خرج من المنزل يجتر غروره بالتفوق في الحساب والفلك أما باقي مواد الدراسة الأخرى ليست إلا مضيعة للوقت، يحضر متى يشاء وتارة يحضر تحت ضغط الإدارة ورغبة أمه في التعلم...
عبر من باب المؤسسة نحو الداخل وكله غرور وتبختر يجر شخصه بخيلاء وكأنه شبح من الجن المارد، نظر بازدراء لحارس البوابة وعيونه تمقت مهنته الشريفة، يخزره بنظرات مقززة. ويكمل طريقه نحو حجرة الدرس تختال نفسه في غرور تام، لم يطرق باب الحجرة وهو الأمر الذي اعتاد عليه مع أستاذ الحساب والفلك اللذين يتغاضيان عن ذلك لتفوقه الدراسي ...
ثقلت خطواته المتبخترة وهو يهم نحو مقعده، لفت انتباه الجميع نحوه، ينتشي بسلوكه ويتفاخر بغروره، وقف المدرس يتابع ذلك في صمت كأنه يعد خطوات أحمد واحدة تلو الأخرى إلى أن جلس أحمد في مقعده وتبسم ساخرا من الجميع وهو يستدير نحوهم ويقول:
ـ لماذا ندرس هذه المادة؟ يسأل بسخرية المغتر، ويضيف:
كان حريا بالوزارة أن تعوض هذه الحصة بحصة الحساب.
نظرات المدرس المزمجرة سقطت كقطعة ثلج على أحمد وهو يسترق النظر نحو أستاذه في ازدراء، سرت القشعريرة في جسده البدين، تلعثمت أنفاسه واِحمرّ وجهه خجلا، اعتدل في جلسته وهو يمقت مدرسه في داخله ...
مد المدرس جسرا من الصداقة مع أحمد باتسامة وديعة،
فهدأ من روعه، عادت البسمة لوجهه الأفطح الغليظ، وبدأ الأستاذ يمهد لبداية الحصة، طلب من الجميع الإنصات بتمعن فحصة اليوم مهمة للغاية...
طلب من أحمد أن يتقدم لكتابة عنوان الدرس على السبورة، غروره جعل خطواته تتثاقل زمنا كأنه يحمل الجندل.
أخد القلم ووقف بجانب السبورة:
ـ أكتب يا أحمد عنوان الدرس.
ـ ما عنوان الدرس سيادة الأستاذ المحترم.
تبسم ساخرا في داخله ولم ينبس ببنت شفة
أجاب الأستاذ في هدوء تام:
عنوان الدرس" الغرور"
كتب أحمد عنوان الدرس على السبورة وقد أدهشه العنوان، موجة من الأسئلة تتدافع في مفكرته لا يعرف من أين مأتاها ولا ما هو مذهبها؛ ارتاب وتوجس خيفة من أن يكون موضوع الحصة وأكمل كتابة العنوان على صوت الأستاذ يطلب منه البقاء بجانب السبورة
فهو تلميذ نجيب بعدما همس في أذنه أن يبقى صامتا ويتابع أجوبة زملائه وأخد الأستاذ يشرح الدرس وأسهب فيه
قبل أن يرفع أحد زملاء أحمد أصبعه يطلب من الأستاذ مثالا عن الغرور
اِحمرّ وجه أحمد وهو يسمع صديقه يطلب مثالا عن الغرور ظن أنه هو وبدأ يتصبب عرقا وكأن زمهرير غروره هب عليه في صمت واشتعل حر الضمير يعاقبه على ذلك؛ كان صوت الأستاذ ينتشله من صقيع الحر ولهيب الضمير وهو يسمع الأستاذ يتحدث عن هذه الصفة القبيحة التي أورثت إبليس لعنة الله حين رفض أن يسجد لما طلب منه عز وجل السجود فتكبر مغرورا ورفض فلحقته لعنة الله عز وجل.
كان أحمد يُرّوي في كلام الأستاذ الذي نفذ عبر مسامه يحدث صريرا في عروقه وهو يقلب صور ذاكرته المليئة بالغرور؛ يتوقف لحظة ينصت بتمعن لما يقوله الأستاذ عن لقمان وهو يعظ ابنه قوله تعالى: "وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ"
هوى هذا الكلام على أحمد كجبل من الصقيع البارد يحمل حمى الحكمة التي اتقدت وهو يقف بجانب أستاذه الذي لف نظره نحو أحمد يبتسم
ألم تذهب لمكانك بعد؟
بين الفرج وقوة الرسالة الهادئة، عادَ أحمد إلى مقعده شخصاً آخر .. في ذهنه تساوت حصة مادة الحساب، وحصة تُعِدّه ليوم الحساب...






Share To: