للشهر الثاني غاب عنها طيفه بعدما إذ صار جزء من صباحات الرحلة الأسبوعية المنضية على الحافلة القديمة، لكن ليس هذا ما كان يهجسها ويحتاج نفسها، طيلة أربعاءات الأسابيع الفائتة، بل ذلك الشعور الغريب الذي كان قد بدأ ينتابها منه، لا تدري له طبيعة، من يوم حدثها عما بالقفة الصفراء المنسوجة بضفائر سعف النخيل المجففة، حتى أنها تساءلت إن كان بشرا فعلا أم روحا غريبة تنتوي شيئا منها شخصيا؟
في غمرت البحث الخفي عنه بالعيون والترقب بالخاطر، اقتطعت شطرا من شريط الذاكرة، وأعادت اجتراره، يوم لأول مرة استدارت نحوه شاخصة فيه وهو يكلمها بصوت خافت من دون النظر إليها، مرسلا بعينيه إلى عمق الحافلة التي بالكاد شق صدرها واختراق زحام الاجساد المتلاصقة المتلاطمة فيها، ليصل إلى المقعد الذي تفضل دوما الجلوس عليه، حتى أنه لا هو بات يدري ولا هي إن كان الاصرار على ذلك الموضع كل صباح أربعاء، مؤشر مواعدة ومودة أم أن الأمر لم يصل إلى حد هذا الظن؟
طويل، عريض المنكبين، بشعر أسود مسترسل يظلل جمجمة أقرب للاستطالة منها للاستدارة، ذكرها بأبطال الافلام الهندية الغنائية لسنوات السبعينيات يوم كانت تُبكي الكبار بأغني لا يفهونها.
ثم انصعقت وهي تسمع سؤاله:
- أي نوع وأي لون اليوم؟
“من أخبره بما ألبس تحت جلبابي الخش الطويل هذا، وبحدود القبلات السفلية بالليل لزوجها وموقع الوشمة السرية الحساس؟” تذكرت ما قالته لها الشوافة أم الخير، وهي تستكشفها عمن أوقع بزوجها في فخ السرقة بالوكالة البنكية حيث يعمل، من أن ثمة شياطين يتجسدون في أصور أشخاص يبعثهم الروحانيون، واعدة أياها بكشفهم لها حالما تجمع المقابل من المال الذي طلبتها به!
تساءلت كيف يكون الشيطان بهذا الجمال؟ لولا غيرة الشيطان من جمال آدم ما أعلن الحرب عليه التي ندفع ثمنها اليوم ومنها رحلاتي الأسبوعية إلى هذا السجن اللعين!
لم تر لائقا أن تجيبه ولا أن تلتفت إليه، مع أنها شعرت بشيء خفي حرك فيها حاجة إلى أن تفتح حصونها المغلقة مذ أغلق على زوجها باب السجن الكبير الكائن في أقصى مخارج المدينة المكتظة قبل سنة، تريد رجلا في كل يومياتها في كل ساعاتها ودقائقها، لا مرة واحدة في الأسبوع من خلف الزجاج المعتم المعقم..
فلما أن أحس منها كل ذلك، حاول هو الآخر إيهامها أنه ليس يهتم بجوابها، مع أنه كان يريد أن يسمعه منها، سماعه من لسانها هو كما لو أنها تنزع عنها لباسها بيدها وودها، لكنه أسقط ببصره إلى القفة المستقرة على حجرها ليزيد من قلقها..
- أظن أن اليوم  خبز شعير، رُب وذهان ومشويات من لحم دجاج وأرانب!
- مستحيل أن يدرك كل ذلك بحاسة الشم، وإلا يكون قد جاوز قدرة كلاب المطارات ونقاط التفتيش في الممرات والمرافق العمومية الحساسة لشرطة وأعوان الأمن والجمارك، ازداد خوفها من همساته الخطيرة، فأدخلت يدها بجيب صدرها، فتسبم منها قائلا:
- أين دسست له الحشيش اليوم؟
- كاد أن يغمى عليها من دقة ما يحكي من معلومات، مستحيل قالت في نفسها، ما أدراه بهذا أيضا، فأطبقت على خبزة الشعير السوداء بالقفة المخبأ بأحشائها قطعة الحشيش كما طلب زوجها، غير دارية بأنه يرقب من خلف نظارته السوداء كل حركاتها من المرآة الأمامية العاكسة لرؤية سائق الحافلة..
وقفت مسأذنة بالنزول دون أن تنبس ببنت شفة، فتكلم بأنفه هاته المرة وهو يتشمم بصوت:
- حتى الكازانوفا احضرت له عطره كما طلب، يالك من جميلة ووفية!
أسرعت بالنزول، وهاجس السؤال عمن يكون هذا المخلوق الذي يركب الحافلة، الذي يقتحم الحصون الأكثر سرية، يتشمم ألجساد والأشياء، وقفت تنظر لمؤخرة الحافلة وهي تفث ذخان محركها القديم، وكأنها تشفق على من هن بداخلها، خالتهن عاريات تحت نظارته وهو يتفحصهن ويشمم هنولعله يعلم كيف يرقدن وكيف يخن أزواجهن إن كن يخنَّ..
تذكرت الجريدة التي طلبها فعادت مسرعة أدراجها أمتارا لتقتنيها، لتجد بعدها نفسها في مؤخرة سلسلة زوار المساجين، تحسرت ليومها الذي سيمضي على مقعد الزوار بقاعة انتظار الأدوار، فتحت الجريدة على صفحة الحوادث لتقفز على جدار الوقت الطويل في يومها المحموم ، فالتهمها كرة واحدة الذهول، صورة الرجل بسمرته ونظارته وعنوان الخبر الطويل بالبنط العريض “اليوم محاكو عون الأمن مكلف يالتنصت على حوار المساجين وذويهم الذي كان يستعمل المعلومات لابتزاز والتحرش بنسائهم”
سدت فمها بيدها، ولما أن قابلت زوجها من خلف الزجاج منعته من أسرارها الاعتيادية الحسية فنقبضت ملامحه من ذلك المنع للتجوال عبر جسدها أما هي فاحتارت هل تعود إلى البيت أم إلى قصر العدالة لحضور المحاكمة!..
 






Share To: