عنوان كتاب للشاعرة والأديبة الدكتورة جميلة الوطني ، صادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ويقع الكتاب في مائة وست وسبعين صفحة من القطع المتوسط ، وفي الصفحة الأولى بعد الغلاف أشارت الكاتبة لنوع الكتاب على أنه سيرة فكانت هذه الكلمة بمثابة مفتاح للولوج إلى داخل المتن وعتبة من عتبات الدخول إلى النص ، وعلى الغلاف ظهرت لوحة لمرأة كبيرة في السن ظهرت عليها ملامح الحزن والتعب .
كل هذه المفاتيح أوحت للمتلقي بالكثير من التفاصيل مما سيقرأ ، فالشاعرة والأديبة الدكتورة جميلة الوطني أرادت أن تقدم شيئاً ولو كان هذا الشيء أقل القليل لهذه المرأة ( أمها) التي أفنت عمرها في تعب وحزن من أجل أولادها ، واختارت عنواناً يحمل دلالات متعددة ، نعم هو أسم الأم بلا ريب ، ولكن لها من اسمها النصيب الأعظم من التعب والحزن والألم ، وسوف نقف عند هذا الاسم بعد أن نقف على عتبة أخرى تدخلنا إلى أعماق النص ، فالإهداء قد حمل لنا الكثير من التفاصيل ، فالكاتبة تهدي كتابها إلى أمها فتقول :
"إلى أمي ....مفتاح إضاءة روحي وكون أخوتي ....منكِ ومعكِ ارتوينا الصبر
سيرتك أنموذج يتجلى وتاريخ يفتخر ....ستفرحين حتماً في قبرك يا أمي ، يا قرة عيني وقدوتي ، لعلي أفي حقك ولو بحجم قطرة من بحر عطائك . "
كل هذه المفاتيح وهذه العتبات توضح لنا وللمتلقي أن الكتاب الذي بين أيدينا هو من كتب السيرة ، وقد سطرت حروفه الكاتبة البارة بأمها بحروفٍ تقطر ألماً وحزناً لما عانته هذه الوالدة (تعبه ) من بداية حياتها إلى لقيت وجه ربها الكريم .
وقد قسمت الكاتبة الدكتورة جميلة الوطني كتابها إلى عناوين تُبين فيها فصول حياة هذه المرأة العظيمة التي تعرضت للعديد من المصائب وظلّت صابرة محتسبة ، وذكرنا أن لاسمها من حياتها النصيب الأعظم ، ( تعبه ) تقول الكاتبة :
" يا لها من أم اسمها تعبه ؛ لأنها تعبت في حياتها كثيراً ، ولها –حقا- من اسمها نصيب ، بل نصيب كبير ، تلبّس الشخصية وترجم الواقع ، وكأنه مقطع زماني مكاني يلاصقها حتى التعبير الذاتي "
وبأسلوب لا يخلو من المتعة والتشويق قامت الكاتبة بتقسيم الكتاب إلى عناوين متعددة وصلت إلى سبعة عشر عنواناً ، مثل : مداخل روحية ، نقش عصي التفسير ، صرخات في ذلك الزرنوق ، موت لم يهبط ......وعناوين أخرى تُسهل على المتلقي المتابعة وتمنحه قسطاً من الراحة للمتابعة .
وقد وثّقت الكثير من الأحداث بصور من الأرشيف العائلي وأرشيف وكالة أنباء البحرين وغيرها من المصادر ، وكان لهذه الصور الكثير من الفائدة لدى المتلقي ، فهي تضع المتلقي في قلب الحدث ، وترفد الكتاب بالكثير من الشفافية والمصداقية ، وربما كان أجمل ما هذه السيرة المصداقية والشفافية التي تمتعت بها الكاتبة .
ومما يُحسب للكاتبة رفد الكتاب بمجموعة كبيرة من الألفاظ المتداولة في دولة البحرين ، فكثيراً ما كانت الكاتبة تُعرج على تلك الألفاظ والكلمات وتضعها في مكانها لتضع المتلقي بطبيعة الحدث وترفد قاموس المتلقي بالكثير من الكلمات الدارجة في دولة البحرين ، ومن هذه الكلمات : الزرنوق ، البرستج ، السهدة ، عفر ، السيب ، وغيرها من الألفاظ ، وقد قامت الكاتبة بتوضيح معاني هذه المفردات في هوامش الكتاب وحسب مواقعها في الصفحات .
وتطرقت الكاتبة في ثنايا هذه السيرة إلى بعض الجوانب السياسية السائدة في ذلك الوقت ، ولم يفت الكاتبة التطرق إلى النهضة العمرانية والاقتصادية التي واكبت تطور البحرين ونهضتها .
كثير من الكتّاب تناولوا السيرة سواء كانت السيرة الذاتية أو السيرة الغيرية ، واشتهرت هذه السير على مستوى كبير جدا ، وقد يصعب علينا في هذه العجالة أن نتطرق لهؤلاء ، مثل د. طه حسين ، والعقاد وغيرهم كثير ، ولكن ما يميز هذه السيرة التي بين أيدينا ، أن الكاتبة تناولت سيرة أقرب الناس إليها ، (أمها) لتسدي لها القليل القليل من حقها كما صرحت الكاتبة في إهدائها ، فهذه الأم قد عانت كثيراً في حياتها ، فقد تزوجت صغيرة جدا ، وقبل أن تبلغ ، وقبل أن تعلم كيف تحيض النساء ، وما أن بلغت عند زوجها حتى مات لها ثلاثة أطفال ، وما صارت في الثامنة عشرة من عمرها حتى توفي زوجها ، ورغم سنها الصغير إلا أنها كانت تقوم بكل ما يلزم البيت من خدمة ، فلم تعرف يوماً كيف يلعب الأطفال ، وعندما تزوجت مرة أخرى ، تزوجت من رجل يكبرها لتربي له أبنه يتيم الأم ، وهكذا كانت حياتها من همٍ إلى آخر ، ومن مصيبة إلى أخرى ، وكأنها خُلقت في هذه الدنيا لتتعب فقط .
وقد أبدعت الكاتبة في سرد أحداث هذه السيرة ، والتي بدت (السيرة ) وكأنها أقرب للرواية من حيث تسلسل الأحداث وربطها ببعضها ، ووضوح عنصر الزمان والمكان ، والشخوص ، فمكان جميع الأحداث هو منطقة (النُعيم ) ، وقد أشبعتها الكاتبة وصفاً ، وسمحت للمتلقي أن يتعرف على تفاصيل هذا الحي من البحرين بكل التفاصيل الممكنة .
وما يُحسب للكاتبة الدكتورة جميلة الوطني في سرد هذه السيرة ، حديثها عن التفاصيل الصغيرة والكبيرة في حياة والدتها بصدق وشفافية قلما نجدها عند الآخرين ، فهي تروي لنا أن والداتها لم تكن على درجة من الجمال ، بل أن الكاتبة قد تجرأت وطرحت هذا السؤال على والدتها ، وتحدثت عن الفقر الذي كانت تعيش به العائلة ، وكثير من الحقائق التي طرقتها الكاتبة موضحةً الوضع الأسري للعائلة بصدق وشفافية قلما نجدها .
ولم يفت الكاتبة أن تتحدث عن شيء من سيرتها الذاتية ، وعن وضعها كفتاة مدللة من قبل أخوتها ، مرفقة صوراً لها في طفولتها .
وتبقى هذه السيرة إبداع أدبي تميز بلغة سلسة عذبة رغم ما بها من أوجاع ، فالدكتورة جميلة صاحبة قلم وثقافة واسعة مزجت حروفها بآلامها ، فظهرت لوحة جميلة رغم ما بها من أوجاع وإضافة نوعية لصفوف وكتب الذين سبقوها ممن كتبوا هذا النوع من الأدب ، فالصور التي رسمتها الكاتبة المبدعة الدكتورة جميلة الوطني تنم عن دراية وثقافة عميقة ، تشد المتلقي ، وتجعله أكثر تشوقاً للمتابعة ومعرفة التفاصيل ، نبارك لها هذا الإنجاز الرائع ، ونتمنى لها التوفيق الدائم .
Post A Comment: