لم يظن أنّه في يوم من الأيام سوف يأخذه شك في وصيّة أبيه، أو سوف تساوره رغبة في فتح تلك الغرفة التي لم يعد يدري هل هي مجرّد مساحة بباب مغلق، أم هي منطقة محرّمة بفعل الوصيّة التي همس بها أبوه وهو ينازع اللحظات الأخيرة في الحياة، وأصبحت اليوم هواجسا يخاف أن تنجلي عما يروّع حاضره ويهزّ ذاكرته التي نامت سنينا على وجه بريء لأب يغادر الحياة في صبيحة يكاد الموت يتخطّفها أيضا من شدّة البرد الذي كادت أن تتكسّر من قسوته أصابع يديه وهو يدلّي الجثة في القبر، وقطرات دمعه تبقّع صفحة الكفن، فصار كلّما فاضت عيناه تبدو له الجثّة ويصير ما حوله أبيضا.
لم يعد يجرؤ على سؤال الأم عن مفتاح الغرفة بعدما أسمعت رميم أخته الصّغرى ما لا تطيقه من تقريع لمجرّد أنّها مسحت غبارا كان قد علق بالمزلاج، لكن كانا يُثقلان الخطو وهما يمرّان أمام عتبة الغرفة، ثم يرخيان السّمع، فصوت يشبه دقّات السّاعة كان يتحرك صدى في الدّاخل. 
في ذلك الصّباح وفي غفلة من أمّه لمس المزلاج فاتحا لأوّل مرّة، وكانت المفاجأة إذ تحرّك الباب، لكنّ أزيزه وجّهه إلى البحث عن العبوة المقطّرة، عبّأها زيتا وراح يشحّم مفاصل الباب. أراد أن يجرّب فأغلق الباب ولكنّه لم يفتح، تضايق ومرّ مسرعا دون أن ينتبه إلى عبوة الزّيت.
عاد في الصّباح ثم حاول فتحه، لم يفلح، ومرّ خائبا للمرّة الثانية. لم ييأس هذه المرّة وأصرّ على استغلال فرصة غياب الأم، في اليوم الموالي وضع يده بخفّة على المزلاج مديرا إيّاه، فإذا بالباب يتزحزح قليلا دون أزيز، وعندما وضع عينيه على السّاعة كانت متقدّمة بدقيقة على ميقات البارحة. ابتهج وتسلّل في حذر شديد إلى داخل الغرفة التي تثبّت من عتمتها، مرّر صفحة يده على مساحة الجدار القريب من الباب باحثا عن قابس الضّوء لكنّه تعثّر في شيء تأكد أنّه كرسي، فامتدت يده بسرعة قبل أن يسقط على الأرض فيكشف دخوله إلى الغرفة المحرّمة، وفي ارتباك غادر الغرفة دون أن يثير ريبة أو حركة تكشف مناورته الخائبة.
في صباح اليوم الموالي اصطدم بأنف أخته يتشمّم مفاصل الباب وبيدها العبوة المقطّرة، التقطها من يدها بسرعة مؤكّدا أنّ والدته أمرته بتشحيم محرّك ماكينة الخياطة، انطلى عليها كذبه وصدّقته لأنّ تلك هي عادة أمّه، والمقطّرة لم يستعملوها في غير تشحيم محرّك الماكينة، لكنّها رمقت وجهه بتقاطيع وجه متعجّبة تعلوها ابتسامة بالكاد تنفلت من فمها لا تشي سوى الرّيبة. بعد أن تأكد من انصرافها، هرع مسرعا إلى النّافذة مطلا، ليتأكد من ابتعادها، ثم عاد إلى باب الغرفة، امتدّت يده إلى المزلاج، لوى المقبض، فتحرّك الباب وكأنّه صخرة كهف علي بابا، استرق نظرة إلى السّاعة، كانت تتقدّم بدقيقتين عن أوّل البارحة، فتأكد أنّ الباب مؤقّت زمنيا، راح يغرز عينيه في محيط الجدار الخارجي للغرفة مفتّشا عن أسلاك أو أداة توقيته، لم يجد، فأدلف مسرعا إلى الغرفة، وانغلق الباب، فعاد هلِعا يحرّك المزلاج، هدأ ارتباكه، ثم عاد ليفتّش في الغرفة المعتمة، انزلق فوق شيء لزج تأكد من ملمسه أنّه قشرة موز، فتقوّى لديه الافتراض بدخول شخص ما إلى الغرفة حديثا.
في اليوم الثّالث، حضر بدقيقة متقدّمة عن البارحة، وضع يده بكل هدوء على المزلاج، أداره، انفتح، دلف الغرفة، أغلق الباب بكل ارتياح، وأخرج من جيبه مصباحا. ساوره بعض الخوف قبل أن يضيئ المكان، فقد يجد ما يمكن أن يفترسه، أو قد يعثر على ما لا يسرّه، لكن برباطة جأش مستعارة ضغط على زرّ المصباح فانفلتت بقعة الضّوء ملتصقة بالجدار، في ارتعاش حرّك يده كما لو كان رجلا آليا، فظهر سوط معلّق على الجدار تعلوه ساعة حائطية متوقّفة، ثم في الزّاوية تقبع حقيبة جلدية، وفي وسط الغرفة كرسي مرمي على الأرض، عدّله ثمّ توجّه صوب الباب، وعلى مقربة من قائمة الكرسي قشرة موز وشاها سواد، علقت بالأرضية. أغلق الغرفة وسار إلى شؤونه، تتضارب الأسئلة والوساوس في رأسه.
بعد أيّام عادت أمّه، وعلى غير عادتها، ارتمت على الفراش مسندة رأسها إلى الوسادة الرّمادية، وغطّت في نوم متقطّع، بعض الأنّات تهزّ غطائها الأبيض، في المساء كانوا ثلاثتهم على موعد في المنزل أين كشفت لهم عن سبب غيابها الأخير الذي لم يكن زيارة لخالتهم ولكن كان إقامة في المستشفى حيث خضعت لحصص العلاج الكيميائي بسبب ورم تمّ تشخيصه حديثا في ثديها الأيسر. فزعا من مكانهما لهول ما سمعاه وما لبثت أن صاحت فيهما كما لو أنّهما خرقا وصيّة الغرفة المحرّمة، فساد صمت مطبق لم يكن فيه منبّها سوى قطرات الماء السّائلة من الحنفية التي ارتخى لولبها. وقبل أن يفجّر حيرته أسئلة عن سرّ الغرفة المحرّمة، بادرتهم بالحديث حولها، كما لو كانوا متّفقين على كشف غموض تلك البقعة المعزولة  من البيت، نهضت متّكئة على يديها في خور بادٍ على وجهها وحركة إقامة ظهرها، واستقرّت على جانب السّرير. كان حينها يجذب مخدّة ويضعها على حجره جامعا يديه فوقها، بينما دكّت أخته لحيتها بين ركبتيها المجموعتين إلى صدرها.  بدأت الأمّ الحديث:
تلك الغرفة التي منعتكما من دخولها عملا بوصيّة أبيكما، والتي يبدو أنّني كنت مخطئة في تطبيقها بحذافيرها، فالماضي خيال ظلّ يتراقص على جدار أبيض، ويستمر في خيالنا لا يمكن أن نهرب منه. كان والدكم كلّما ولجناها إلا ويقول: 
خسئت العرب، يقولون أمر دبّر بليل، هل كل ظلامٍ يعني الليل؟ ها أنذا في غرفتي المظلمة وسط رائعة النّهار. تبّا.." !
 كان متعمّدا إعتام الغرفة، لا يترك منفذا للضّوء سوى ذلك الذي كان يتسلّل من النّافذة التي غلّف مربّعات زجاجها إلا واحدة وضع عليها قطعة قماش شفّافة، وكان يتساءل:           - لماذا الكفن لا يكون شفّافا؟ 
احتار الإبن في ما أصبح عنده بمثابة النّوبة، حين يشتدّ به الدّمع تقفز أمامه الجثّة ويصير كلّ شيء أبيضا.
استمرّت الأم:
 يبدأ طقوسه التي صارت مع الأيّام كما الورد، حفظتها عن ظهر قلب. يتوسّط الغرفة مقتعدا الكرسي، ثم يموقعني في زاوية معيّنة ويخرج السّوط، ودون أن يضربني أبادر إلى جَلْدي بمحض إرادتي، طبعا في الأيّام الأولى كنت أرى نفسي سأثور عليه، وبعدها كان يفتح الباب ويغيب، وفي نفس الموعد متقدّما كلّ يوم بدقيقة يأمرني بغلق عينيّ، بعد ذلك أشعر بفم يمصّ ثديي، ثم أراه يفتح الحقيبة، يخرج منها ورقة، يكتب ثم يغلقها ويمسك ثديي، يتفحّص حجمه، ثم يهمس تحت أنفه: 
مازالت بخير.. ويضحك سائلا عن قُوتِكم، هل نفذ أم لا؟ 
سكتت الأمّ، ولم يبق سوى أن تتوجّه بهم إلى الغرفة، اتّكأت على ابنتها، مباشرة أدارت المزلاج، انفتح الباب، دخلت ووضعت يدها على قابس الضّوء فأنارت الغرفة، نسيت في روايتها ذكر ما يشبه التّابوت الصّغير المستقر في الزّاوية خلف الكرسي. أخبرتهما بقناعته التي ترسّخت في أنّه لم يعد في حاجة إلى بدلة الفروسية التي كان جدّهما يتباهى بها في الأفراح والأعياد. وقبل أن تمتدّ يده إلى الحقيبة، أشارت إلى قشرة الموز، وكشفت أنّ الجلوس على الكرسي كان كالقرفصاء على غصن شجرة. في ذكراه البعيدة بعد العدد الذي لا تعرفه، بلعت موزة ورفست القشرة، هكذا ورد في كلامها بعد أن بدأ النعاس يغالب جفنيها. فتح الحقيبة، كومة أوراق سجّلت عليها أسماء أعجمية.   







Share To: