.أبي:

يافانوساً يضئ ظلام عمري الحالك المدلهم بالخطايا والأثام، ها أنا أصغى لضميري المنتفض الثائر وهو يلح علي بحمـاس لأن أزرعك نبتة خضراء في صحراء حياتي المقفرة... لأن أخطّك سـطراً مضيئا في صفحة حياتي القاتمة السوداء ، أبي ياقمر يتألق في كبد السماء الصافية يا بدراً مـنيراً يلقي بأشعته الفضية على أشجار أيامي اليابسه، هبني قليلًا من النور يجلو ملامح قلبي، ويُزيل الحمولة عن كاهلي، فمن يُهدهد قلب هذا الولد الضآل سواك يا أبتِ..! 

أنت أيّها الوجود الكبير، والقلب الذي لا ينام، مد رجليك يا أبتِ لأقبل شقوق قدميك، وأعانق جبينك وشاربك المهيب وأنفك المصقول كحد سيف...
كنت سأقول يا أبتِ:أنك اليوم تتجلى كالنسيم العليل المفعم بأريج الياسمين ؛لكنني خشيت أن يزداد هذا الليل الساكن روعة وسحراً .

دعني أتكلم و أبوح بكل ما في صدري ..لقد آن لعطفتي الحبيسة أن تنبثق، وآن لقلبي الظامي أن يرتوي،ها قد جاورت الخمسين ولم يتمكن ولدك الملعون أن يساعدك بشيء، سامحيني يا أبتِ فأنا فقير ،فقير وبائس ولا أملك سواك شيئاً...

كثيراً ما تنهال المعاني على نفسي فتفـيض بي المشـاعر،وتتدفق تريد أن تنبثق وتفصح عن مكنوانها ،فأكنوها في أعماقي لأبوح لك، وعندما أراك يثقل الحياء لساني فلا ينطق سامحني فأنا ولدٌ تائه؛ لكنني أخجل حينما أعود اليك وتمنحني أنت ما تملك من ريالات،فأنا لا استطيع أن أفعل شي،لا شيء سوى نثر الحروف هنا في هذا العالم الافتراضي الذي لا يخدمني بشيء ولا تعرفه أنت.

أتذكر طفولتي جيداً :

لقد كنت يا أبتِ قبل عشرين عاماً من الآن وسيما تملك عملاً و شعرا أسود جميلاً ، وكنتٌ ألهو بجانبك أثناء عملك.

والآن سلبتك الحرب كل شيء، بعتِ كل ما تملك لنتعلم نحن، تعلمنا وكبرنا ثم لم نمنحك مقابل شعرك الأبيض سوى مزيد من التجاعيد على خدك الجميل.

لكني أعدك يا أبتِ أن أرقى في سلم المجد وأطير إلى قمته السامقة البعيدة لأحط عليها كنسـر عنيـد وأعود اليك ظافرا ومنتصبا على السحاب.... سيرفعني إليها جناحان حانيان.. أمي العظيمة وأحلامي الجميلة.

آه.. لو أنك رأيت أحلامي يا أبتِ لتمنيت أن تضعها في قلبك.

آه.. يامحمود الخصال، نبتت لي شارب ولحية ،شارب لا يرتقي إلى شاربك، وارتسمت على وجهي بكل تقاسيمه مطبات الحياة وعثراتها،وتعلمت أن أنهض كلما يلطمني القدر ،وأن أبكي وأمسح دموعي لوحدي دون أن يشعر بذلك أحد ،وتعلمت كيف اجاهد لأعيش في دولة لا تملك أبسط مقومات الحياة الكريمة.

أيا ملاكًا طـاهرًا حطّ في دربي فآنس وحشتي وبدد غربتي.. أنت الماء الروحـي لعطشى.. والبلسم الشافي لكل جروحي وأدوائي.. أنـت الأمل الذي يشحذ همتي ويلهم خطواتي.

ليتك تعلم كم يسعدني أن أرى إبتسامة الفرح والفخر والاعتزاز وهي تشرق مـن وجهـك الطيـب فتملأني ثقة وعزيمة ... 

أعِدْك أنني سأصل يوماً إلى ما كنت تحلم وتتمنى.

لن أهدأ ولن أرتاح حتى أُُشربك عمري وعافيتي، أيها العظيم وأقدسك كراهب لم يغادر محراب الدير ولم ينزع بردة العبادة، وذلك مقابل جور الزمان عليك.

أمي:

وأنتِ يا صباحي الأول و أنوارفجري ،ياقطرة ندى تلمعُ على أوراقي ،انتظريني لأقف على قدمي ثم أصنع لكِ عرْشاً من روحي ومن تكويني، و مُرَصَّعٌ بما تبقَّى من عمري.







Share To: