=====
كانت مصر منذ قرن و ربع قرن ترزح تحت نير أحداث جسام، والتيارات السياسية الخارجية تتجاذبها من كل جانب، فالدولة العثمانية تجاهد في سبيل الاحتفاظ بسيطرتها على مصر، والإنجليز يبذلونه مساعيهم في سبيل فصلها عن تركيا ليستأثروا هم بها، والدول الأجنبية تشهد هذا الصراع فتميل إلى هذا الجانب تارة، وإلى ذاك تارة أخرى، مقابل تحقيق بعض مطامعها على حساب مصر، وبين هذا وذاك، قامت الحرب الباردة على أشدها بين عاهل مصر وبين "قصر الدوبارة" كعبة الاستعمار ورمز الاحتلال..
ولم يجد المفكرون، خلال هذه الظروف ، وسيلة لاستنهاض همة الشعب ، وإيقاظه، وحثه على التمسك بحقوقه المشروعة سوى مخاطبته بلغته، وتوجيهه توجيها غير مباشر، متذرعين بالنكتة والفكاهة للوصول إلى روحه المرحة..
ومن هنا كان عدد الصحف الفكاهية الهزلية التي تصدر في القاهرة وحدها أكثر من سبعين صحيفة ومجلة، بينها الأسبوعية والشهرية ونصف الشهرية، المصورة وغير المصورة، ويقوم على تحريرها أعلام الأدب والفكاهة في مصر ، كالأستاذ عبد الله النديم، كاتب الثورة العرابية وشاعرها وموقد جذوتها، وكان يصدر جريدة "الأستاذ" فعطلتها الحكومة، فأصدر النديم مجلة "التنكيت والتبكيت".
والأستاذ أحمد فؤاد صاحب "الصاعقة" ، والأستاذ يعقوب صنوع تلميذ السيد/ جمال الدين الأفغاني وكان يصدر جريدة "أبو نضارة" وقد اشتريتها كاملة منذ سنوات ببضعة آلاف ، ومحمد توفيق الدريني صاحب "حمارة مُنيتي" ، وأحمد حافظ عوض بك صاحب "خيال الظل" وغيرهم ..
ومن الصحف الهزلية : صحف كانت تحمل أسماء غريبة مثل جريدة "البابا غاللو المصري" و "البعبع" و "الجن الأحمر" و "الخلاعة" و "ضد الخلاعة" و "زقزوق وظريفة" و "العفريت" و "عفريت الحمارة" و "لا مؤاخذة" ، و "اشمعنى" ، و "لق لق" ، و "مشنقة عشماوي" و "الخازوق" و "أبو قردان" و "الأرنب" و "أم الخلول" و "عفاريت الزار" وغيرها.
وكانت جميعها تنحو في سياستها نحو نقد الأحوال الجارية، والتندر على رجال السياسة، ومهاجمة الاحتلال الإنجليزي، وفضح خفايا السياسة البريطانية، والسخرية برجال الحكم الذين يخضعون خضوعا أعمى للغاصب وأعوانه...
وإلى القراء "عينات" موجزة من فكاهات هذه الصحف:
نشرت جريدة "حمارة منيتي" تحت عنوان الاشتراكات ما يأتي: "الاشتراك 30 قرش، والنسخة الواحدة تسوى جنيه لكن عشان خاطرك بقرش صاغ"..
وقد استهلت عددها الأول بهذه الكلمة:
"تصدر من بره بره، وتظهر في الجمعة مرة، كلامها سخن بسخن، وقوامها مافيهش تخن، رفصها بالمحسوس، وعضها عرقسوس، وإن جيت تسمع لها الماضي، روح اطلبها في بيت القاضي، إنما قبل كل حساب، يلزمك تاخد فردة شراب، وتجري على حاييم، ترهنها بتلتميت مليم، وتغمرني بهم على مهل، وتاخد بهم وصل، وهو على ما أقول وكيل، يا عطشان سبيل".
واستهل الافتتاحية بقوله:
طوبى لقربك يا حمارة منيتي
يا من تجلت في زمان المسخرة
ولقد ثبت منذ اجتبيتك للسرو
ر ، لعله يشفيك من انجلـــتره
وكانت جريدة "أبو نضارة" تنشر في كل عدد محضر جلسة خيالية في "البارغتلو المصري" وأعضاؤه يمثلون طبقات الشعب، وهذه خلاصة إحدى الجلسات:
الرئيس: صباح شريف يا أعضاء المجلس بتاع احنا.
الأعضاء: صبحك بالخير والكرامة، يا شوشة الهدهد وذيل اليمامة.
الرئيس: ازي الحال، يا سيد عبد العال، ومتى جئت أيها البطل الصنديد، في قطار الصعيد؟
أبو جاموس : ادَّليت عشية مع باجور النار، اللي جاب التيران لحد باب الدار، وسبت الجماعة يعيطوا من الجوع في الدوار، والحكومة دايرة تلم الرجالة في السخرة ليل ونهار، والزرع مات من الشراجي وأكله الدود، وربنا موجود، وآدي يابو حمده اللي صار، وربنا يخلي أفندينا ومجلس النظار.
الرئيس : عفارم عفارم، وازي البهايم؟
أبو جاموس : البهايم بيدعوا لك بالنصر، من امبارح العصر، والحمارة بتبوس إيدك، لحد ما يعدِّلها سيدك.
الرئيس : مش لازم حمار يبوس إيد بتاع احنا يا أبو جاموس، إلا إذا كان فيها فلوس..
أبو دم تقيل : هوه احنا لاقيين فلوس، يا رئيس المجوس؟.
الرئيس : سكتوا أبو دم تقيل، مجلس أوباش مساطيل..
أبو بدلة بني : حيلك شوية يا حضرة الرئيس، خليك واد فييس، وما تبقاش دردبيس، وحق إبليس، اللي عملك علينا رئيس هنكرة، عشان الحرمة إنجلترة!.
وعندما أصدر عبد الله النديم جريدة "التنكيت والتبكيت" جعل شعارها هذه الأبيات:
قل للذي ديدنه التنكيتُ .... وقل لمن في الفضل يا بخيتُ
هذا هو التنكيتُ والتبكيتُ .... في جده وهزله عفريت
فقلم "النديم" لا يموت
وهذه طائفة من "الأخبار" التي كانت في جريدته:
شركة الترام في 5 منه –لمراسلنا المذكور أعلاه –قررت الشركة بمناسبة عيد الفطر المبارك –زيادة عدد المدهوسين نحو 20 في المائة ، فعلى الأهالي أن يغتنموا الفرصة ويستعدوا للدهس ابتداء من أمس.
واشتهرت جريدة "خيال الظل" لصاحبها الأستاذ أحمد حافظ عوض بك، بنشر تقليد للحكم والأمثال المأثورة على النحو التالي:
أبغض الحلال عند الله أكل المرء على حساب غيره
رحم الله امرءا عرف قدر بطنه
"اللورد" ياكل بعضه، إن لم يجد ما يأكله
الجنة لمن أكل..
اخشوشنوا فإن "انجلترة" لا تدوم !
ونشرت مجلة "الخلاعة" الإعلان الآتي تعرّض فيه بمجلس شورى القوانين:
"إنه في يوم زي وش الأبعد، الموافق الأحد، قمت أنا محضر محكمة "هز يا وز": الأهلية، ومعي شيخ المحشي إلى محل إقامة رئيس مجلس الأنس الهني الشهير باسم شورى القوانين، وأعلنت أن من يدفع للطالب اللي هوه أنا، مبلغا وقدره خمس حمير حصاوي وفاء للحكم الصادر ضده في جلسة يوم ما طلعتلوش شمس، ولما زمجر وبرطم، وترجم وطمطم، وهز ذيله ذات اليمين وذات اليسار ، وطقت عنيه شرار، أوقعت الحجز على ممتلكاته الآتية:
عدد 6 لسان إنجليزي، مزركش بالإبريزي، طول اللسان شبر ونصف .
عدد 25 عضو خشب لطزان منجدين وعلى كل منهم مخدة ولحافين عليهم العين.
عدد 18 بطانية محلاوي وبر النعام، يتغطى بها المجلس عندما ينام، مقاس 30 قلم في ستين داهية.
عدد 15 شلوت عثمانلي بالترتر.
عدد 30 عفريت انجليزي راكبين على أنفاس الأعضاء، وحاطين مناخيرهم في الأرض بعد ما كانت في السما.
وحدد لبيع هذه الأصناف ، يوم ما ناكل العيش الحاف، فعلى راغب الشراء الحضور، بدون دستور ولا حازدور، ولا طابور، ولا خابور، ولا سيدي طلطميس أغا أبو طرطور.
وكانت جريدة "زقزوق وظريفة" تنشر في كل عدد منها "فاتورة" تتضمن فكاهات منوعة لا صلة بينها، تسخر فيها من رجال السياسة، وهاك نموذجا منها:
*شوهدت الحماية واقفة قدام قصر الدوبارة و "فارشة الملاية" للورد كرومر البريطاني.
*فتحت وزارة الأوقاف اعتمادا بمبلغ خمسين جنيها لتغذية الثعابين والفيران الموجودة في الملفات.
*ركب أحدهم التراب وتوفي غير متجاوز المحطة الثالثة من عمره.
*دخل أحدهم شركة المياه وطلع مبلول.
*أصيب الأستاذ صاحب المؤيد بالإغماء ولما أسعف بالعلاج اتضح أنه "بالع نسخة"..
*دخلت إحدى الهوانم "حمام التلات" فاستقبلوها بالقباقيب.
*لما يغني المطرب "..." يربطوا السميعة في الكراسي بالحبال!
*تحلف المطربة "..." إنها وهي صغيرة كان كل عياطها "حجاز كار".
وكانت جريدة "عفريت الحمارة" تنشر في كل أسبوع جدولا تسميه "طوالع فلكية" معارضة بذلك الطوالع التي كان يصدرها بعض الفلكيين في نشرة سنوية بعنوان: "طوالع الملوك" وهذا بعض ما جاء فيها:
الاثنين: تزرع البامية الخضراء. يظهر القشف على قفا قصر الدوبارة. يظهر الجراد في قهوة اللوفر. تظهر النقدية في جيب سليم سركيس. يكثر الناموس في دواوين الحكومة. يكح ناظر النظار.
الثلاثاء : يظهر الكاللو في اقدام الاحتلال يهرش العميد البريطاني في قفا انجلتره. يظهر الباذنجان. تموت الحقوق عند الخواجة حاييم. تطلع انجلتره القرافة. تزرع القباقيب والمنافيخ. يحصد النظار ما زرعوه.
الأربعاء : تصاب مصلحة البوستة بالندوب العلية. تكثر القروش المزيفة في قهوة نزهة النفوس. تروى زراعة البطيخ الأقرع. تظهر البراغيث في جيب المطرب "...". تبات نار تصبح رماد قل إن شاء الله..
الخميس : موعد ري البرسيم لعليق جيش الاحتلال تظهر فحول الجاموس في نيوبار. يفطر الشيخ "..." على بصلة ، يشتري "..." علبة سجاير بقرش تعريفة. نقعد نعلم في المتبلم يصبح ناسي..
ونكتفي بهذا القدر من نماذج الفكاهات والطرائف التي كانت تضحك جدودنا ، ويجدون فيها كل تسلية وترفيه، ولكن هل تروق هذه الفكاهات للأبناء كما راقت للآباء؟
Post A Comment: