في أحدى محاضراته في الأيام الأولى لنجاح الثورة المصرية في الاطاحة بنظام مبارك، خرج على الجميع، المخرج السينمائي المصري، خالد يوسف ليقول في معرض مواجهته لاختيار الشعب المصري السياسي، محددا لنطاق الوحدة القومية، أنه يرفض أن يمتد ذلك إلى خارج منطقة اللسان العربي، كاشفا بذلك عن موقفه الرافض لمنطق وحدة الأمة الاسلامية وأساسها الديني، لكن في الحقيقة عن أية عربية اللسان يتحدث خالد يوسف وهو في كامل أعماله الفنية “دارج” في اللغة مكتفيا باللهجة المصرية القاهرية عن غيرها من لهجات “أمته” العربية؟
وهل تسهم حقا اللهجات الدارجة في الارتقاء بالثقافة العربية داخل إطار نسقها القومي المحدود والمسدود بالمشترك اللغوي؟
طيلة العهود الأولى والوسطى لظهور التلفزيون، كان الانتاج التنشيئي يعتمد على اللغة الفصحى بحيث يتم تسويق ما يُدبلج ويترجم من رسوم متحركة وأفلام قصصية، وأشرطة تربوية، من أعمال مستوردة من شركات الانتاج العالمية عبر كامل الرقعة “القومية” العربية، وحين أبدعت إحدى الفرق الغنائية السورية بأن أعادت مؤخرا غناء جل أغاني الشارة لمسلسلات الرسوم المتحركة القديمة (ما أحلى أن نعيش في وطن واحد) أدرك الجميع أن نبضا واحدا كان يسمع ويستوعب على هاته الأرض الممتدة من الأطلسي إلى مياه الخليج الساخنة.
ثم جاءت موجة الرومانسية اللاتينية مع تفجر فجر البث الفضائي، وتصدى لعملية نقل قصص الغرام والموت وحروب المواريث في الثقافة الغربية، الذرع الدبلجي القديم، في استديوهات بيروت، وتعلقت النفوس والافئدة بالظاهرة التي كانت تدق في الاسماع والقلوب بلغة الضاد وجرسها البهي، التي تألقت كما لم تتألق في كل الترجمات الأدبية لروايات وقصص ونقد، وسقطت أكذوبة أن الفصحى صعبة على المتلقي العربي كي يستوعبها في الأطر التعبيرية الفنية، مثل الغناء والتمثيل، مع أن أغنية الأطلال لأم كلثوم هي أشهر ما اختزنته ذاكرة التلقي العربي في عمر الطرب الكلاسيكي، وحتى في موجة الغناء الشبابي، كما ينعت، كانت أغاني كاظم الساهر (قولي أحبك) أشهر ما تعلقت به أسماع الشباب.
شيئا فشيئا، راحت بعض الأطراف التي لم يرق لها أن ترى الثقافة العربية تلبس ردائها الفصيح الجامع لكل شتات ورقع الأمة، تنفصل عن هذا الجهد الرائد، وتتبنى اللهجات المحلية على حساب لغة الضاد، وبهذا راحت الترانيم الفصيحة تغيب ومعها يغيب ذلك التمدد والتعدي للحدود والسدود الجغرافية والسياسية من جديد بعدما قيل أن البث الفضلئي واتساع نطاق تدفقه اليومي سيسهم أكثر في ردم هوة الاختلاف ويحقق التقارب الالسني.
طبعا مساوئ الانقلاب على الفصحى كأساس وأداة تعبير فنية وثقافية، ليس يقف أثره عند حد الحد من قوى وجهود الوحدة بين مختلف مكونات فضاء التلقي العربي، بل يمتد إلى الفصحى ذاتها، بحيث يقف دون تطورها على صعيد العمل الفني ويمنعها من التطور في هذا الاتجاه.
الفرانكفونيون المتصلون حتما بالسياسة اللغوية لبلدانهم، لا يتهاونون مطلقا في هذا المجال، وشغلهم واضح هو ملء الحاجة الثقافية من خلال اللغة الراقية، ما مكنهم طبعا لهم من البقاء في صدارة التصدير الفني لكثير من البلدان التي تقودها سياسيا وثقافيا نخب صماء بكماء عمياء من أمثال خالد يوسف متاجرة بالقضايا الثقافية وليس منتجة للمعنى ولا اللغة.
والغريب أن عديد النقاد في الأدب والفن لا يكادون يلتفتون لمثل هاته القضاية الشائكة في الواقع العملي الفني العربي، ولا يأبهون ببؤر الصراع التي يحاول جل المتكالبون على اللغة العربية، بوصفها المشترك القومي، إشعالها من خلال استحضار سجالات فكرية وتصارعات دينية ونظريات علمية ألسنية لشرعنة الدارجة بحسبانها “لغة” بمقتضى الالسنيات الحديثة، ومن ثم العمل على الارتقاء بها إلى مستوى لغة التعبير الفني والثقافي في انتظار البسها الحرف الذي يليق بها ولمَ لا يكون لاتينيا بيعيدا على الحرف العربي العريق والحقيق !
وليس هذا الكلام ينبع من رؤية “تآمرية” كلا، بل إن إرهاصات النكوص على الفصحى كانت قد بدأت من فترة طويلة، ممن تصدو للخلافة العثمانية، مخافة أن تقتلع معالم الثقافة العربية المحلية، بأن أسهموا في تطوير الفصحى بشكل كبير، من أبرزهم كان سعيد عقل، الشاعر اللبناني الكبير والنحات البارع في اللغة العربية، قبل أن يعود ويكفر بها، مطالبا بتدريج اللسان العربي، بعد أن انحسر المد العثماني، ونجت “المسيحية الفرانكفونية” في الشام ولبنان من (التتريك) الثقافي.
فواضح إذن اللغة ليست هامشية في الصراع بل الصدام الحضاري مثلما نبأ وتنبأ به المفكر الامريكي الراحل صومائيل هينتينغتون في كتابه الشهير، (صدام الحضارات) واللغة العربية المكلومة اليوم في واقعها، تقع بين قوميين يُهزمون في العام أكثر من هزيمة بسبب تكلسهم الفكري والسياسي، وحلمهم الجغرافي الوحدي المتصحر، وإسلاميين لفرط حساسيتهم من القوميين، ينفكون باستحياء عن اللغة العربية الفصحى بشيء من التطهر من التعصب الالسني، شعارهم الآية الكريمة (في اختلاف السنتكم والوانكم) بزعم أن قضيتهم ودعوتهم تتجاوز محدودات اللسان وتتصل أكثر بالايمان، وهو فهم أعمى لأشياء التاريخ التصارعية، ويكشف عن حجم صغرهم في هذا المعترك الحضاري الواسع الذي تُطحن فيه البشرية اليوم في معناها ومبناها.
Post A Comment: