كعادتها كل صباح تغادر إحسان بيتها متجهة للعمل، تحضن إبنها الصغير تملأه دفئا وحنانا وتشبع رغبتها في الأمومة فتتدفق الطاقة والحيوية في جسدها فتنطلق صوب عملها وكلها طاقة إيجابية.. البسمة تعلو محياها الجميل وقسمات وجهها الطفولي الوديع تبعث الحياة من جديد في عالم سخيف مليئ بالمتناقضات، على وجوه شخوصه أقنعة مرصعة بالبياض وموشومة بكذبة الحياة..
البراءة تنساب على خدي وجهها العذب وعيونها كنجوم تنير سماء عالم مظلم، تنقشع ضياء وسط أمواج عتمة عالم مظلم بغيض. 
تغادر بيتها في ساعات الصباح الباكر بعدما تتناول فطور الصباح رفقة صغيرها، وتنطلق بخطى وئيدة تقطع الأزقة صوب عيادتها الطبية، تستقبل الزوار  بحب كبير وهي من أحبت عملها لدرجة الهيام وما أجمل أن تكون هوايتك هي حرفتك وهي التي كان تهوى مهنة التطبيب من نعومة أظافرها. تتعدد وظائفها في العيادة من مهمة التطبيب إلى أم متدفقة الحنان لطفل يئن من المرض وأب يعطف على صغيره وأخ يشد عضد أخيه وأخت تكيل الود لأختها، لم يكن تقديم الوصفات الطبية والفحص والتشخيص وظيفتها الأولى بل كانت تقدم بلسم السعادة للمرضى بابتسامتها الوديعة التي لا تفارفقها وحنانها الدافق.. 
شاعت طيبوبتها بين الجميع، كسبت ودهم واحترامهم، بل وصداقة الجميع، لم تكن تعلم أن إحدى مريدات العيادة ستصبح يوما ما صديقتها الحميمة.. تعدد  زيارتها للعيادة و أضحت اللقاءات بينهما تتكرر خارج العيادة تارة في منزلها وثارة في منزل صديقتها إسراء، توطدت علاقة الصداقة بينهما وكأنهما يعرفان بعضهما منذ زمن بعيد، تبادلا الأسرار وأضحت كل واحدة لا تستطيع فراق صديقتها فلا يمر يوم واحد دون لقائهما ولو للحظات قليلة يتبادلان دردشة عابرة ولغوا عن روتين العمل اليومي..
كانت صديقتها إسراء متزوجة وأم لطفلين، البنت البكر تبلغ خمسة عشر سنة والإبن في الثامنة من عمره، زوجها رجل هيئته محترم ضخم وبدين، أسمر البشرة، قسمات وجهه توحي للناظر  أنه عاش ظهرا وحيدا لذلك فهو منطوي يميل للوحدة منغمس في عالمه الافتراضي تتلاطفه أمواج مواقع التواصل الاجتماعي، كان جنديا متقاعد أنهى الخدمة العسكرية بعد عشرين سنة قضاها عسكريا في الصحراء مدافعا عن حدود الوطن فقد ألف العزلة هناك وصاحب الكثبان الرملية، مزاجه العسكري لا يزال يصاحبه في حياته اليومية.. 
حين تتواجد إحسان في البيت رفقة زوجته إسراء لا يفوت الفرصة في حديث عابرة على مائدة الطعام، يشارك بنكتة عن العساكر في حرب الرمال وهو يلوك لسانه بكلمات من معجمه العسكري، بين الفينة والأخرى يثني على إحسان وعملها وطيبوبتها التي أسرت معظم قلوب الناس، وهو يسترق بين الفينة والأخرى نظرة خاطفة يطلع على ملامح إحسان الطفولية، لكن سرعان ما يكف عن ذلك وينحسب خوفا من غيرة زوجته التي لا تحتمل نظرة زوجها لأي من نسوة المدينة..
مرت الأيام متسارعة وروابط الصداقة تتوطدت بين إحسان وصديقتها إسراء، لم تكن إحسان تعلم أن نظرة زوج صديقتها إسراء نظرة إعجاب تطورت مع توالي الزيارات إلى حب فقد صار متيما بها، لكنه كان حريصا على إخفاء شعوره اتجاه إحسان خوفا من غضب زوجته، فأسرته على كف عفريت إذا افتضح أمره واكتشفت زوجته شعور زوجها نحو صديقتها.
 كان حريصا على عدم مغادرة البيت في اللحظة التي تأتي إحسان لزيارة زوجته، بل يستمع طرق خطواتها في المنزل وصداها يتردد خفقان في قلبه المتيم، وهو يسترق السمع لحديثها العذب مع زوجته..
شاء القدر أن تغادر إسراء المدينة رفقة زوجها وأبناءهما والاستقرار في مدينة طنجة، حبل الود مع صديقتها وطيد ومتين.. 
رغم بعد المسافة، مساء كل يوم يجتمعان، لهما لقاء على تطبيق الوطساب في مكالمة فيديو يحكيان عن روتينهما اليوم وعن الحنين للأوقات الحلوة التي مضت .. الزوج ينتظر المكالمة بفارغ الصبر كي يسترق نظرة يستطلع فيها وجه إحسان وفي قرارة نفسه شوق لرؤية وجه إحسان الوديع، يشبع استهاميا رغبته في حديث لهنيهة مع إحسان..
قرر الزوج الخائن ذات يوم أن يبوح بحبه لصديقة زوجته، ففكر في سبيل يسلكه نحو ذلك، قلب الأمر مليا لليال عديدة، يبيت من السهر يختبر المسلك تلو الآخر فهو يعلم أن البوح بالأمر يشكل فضيحة قد تؤول إلى ما لا تحمد عقباه، لكن الولع والإعجاب غلبه فنسي سنين التضحية التي قدمتها زوجته وطول الليالي التي سهرت على تربية الأبناء والحرمان الذي كانت تقف  في وجهه جبارة في غياب زوجها.. لم يفكر الزوج الخائن ولو لحظة فيما سيقدم على فعله، لم يحسب العواقب وما ستؤول إليه الأوضاع.. لكنه أصر على البوح بمشاعره لصديقة زوجته، فليالي السهاد الطويلة أرهقته والرقاد يهجره وهو يضاجع الحلم في فراشه بجانب زوجته التي يرى فيها وجه إحسان، يخال بسمتها وحديثها، يشتم رائحة عطرها كان يلبس زوجته قناع شخص أحسان ويبحر في أمواجه الاستهامية،  لاحظت زوجته سلوكه وقد تغير كأن شيئا ما يشغل باله لكن تكوينه العسكري علمه كيف   ويخفي الحقيقة ولا يفشي أسراره تحت أي ضغط... 
خائن العشرة ينام بجانب جسد زوجته وروحه تبحر في هيام نحو صديقة زوجته إحسان.. انتظر ذات يوم حتى تنهي إحسان مهامها من العيادة، أخد الهاتف وربط الإتصال بها.. رن الهاتف لثوان وهاهو صوت احسان الطفولي يخترق الغلاف الجوي ويطوي المسافات يقع في أدنه:
ألو، ألو 
أجاب 
ألو 
السلام عليكم 
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته 
مرحبا أخي اسماعيل 
تقول إحسان
غفا في حلم يبحر على وقع طقطقة صوت إحسان يدق مشاعره الرثة، لم يستطع البوح وتلعثم في الحديث، كل قصص العشق التي نسجها والقصائد التي نظمها انهارت في لحظة وجيزة، عجز اللسان عن الكلام والبوح، اختطلت المشاعر بين الرغبة وجموحها ومطرقة الخوف من ردت فعل لا يعرف نتائجها وهو يسمع صوتها يتردد:
هل أنتم بخير؟ 
طفق قلبه يخفق، تبعرث مشاعره لكن الكلمات لم تطاوعه وساد صمت وكأنه عقد من الزمن مر عليه، قبل أن يستدرك غفوته وهو يحاول جاهدا انتشال ذاته من يم وقع فيه وهو لا يجيد السباحة بجناحين مكسورين وهي تقول: 
هل تسمعني أخي اسماعيل؟ 
يجيب وقد استجمع قوة لسانه وهو بالكاد يرتب فلول جيش الكلمات الذي اندحر قبل قليل ويقول: 
نعم أسمعك جيدا، الحمد لله 
أتمنى أن تكون بألف خير إحسان. 
تجيب للتو: 
نعم بخير، فقد اشتقت لكم
مال بخياله جانبا وهو يرجو لو قالت اشتقت لك لكان أسعد رجل في هذا العالم. لكن زجاجة الحلم هشة وسرعان ما تنكسر عند أول خيوط الحقيقة.. 
وتابع حديثه معها:
ونحن كذلك، لم يتم كلمة الشوق فقد اعتراه خجل كبير وحذر شديد وكأنه يوشك على نزع فتيل قنبلة قد تعصف بحياته للأبد.. قبل أن يسمعها وهي تسأل عن حال صديقتها لكن أصابع يده وهي ترتجف ضغظت على زر إنهاء المكالمة وأقفل الخط دون أن يتم الإستماع لكلام إحسان... 
انكمشت أسارير وجه الزوج الخائن واشتد طموحه ليخبرها بمشاعره وهَمّ يكتب رسالة تلو الأخرى ويبعث بها في الحال راجيا منها أن تترك الموضوع سرا بينهما فهو يريد منها الزواج على سنة الله ورسوله..
تلقت إحسان الرسائل النصية بدهشة لم يسبق لها مثيل طيلة مسار حياتها، ملامحها الطفولية المفعمة بالحياة غدت كصحراء قاحلة نضب ماؤها واعتراه التسحر من كل الجوانب، ابتلعت البسمة من وجهها وأضحى نيئا شاحب المعنى، لم تستطع أن تستوعب ما يجري حولها، تشنجت عظلات اللسان ولم يطاوعها في الكلام مع ذاتها وهي تحاورها تسأل ولا تجد جواب يشفي حيرتها، تعثرت خطاها من هول الصدمة وكادت تسقط مغميا عليها لو رباطة الجأش التي تحلت بها والخبرة الطويلة في عملها في مهنة التطبيب.. غادرت العيادة مسرعة على غير عادتها تحاول   ارتشاف حنيق داخلي يدفعها للبكاء وشفقة على صديقتها التي ابتليت بزوج خائن، ارتمت في حضن أمها تبكي حتى ابتلت خدودها الوردية  دمعا، و ارتوى انكسارها ولملمت كلماتها وامتنعت عن اللغو، غيرت رقم الهاتف وانقطع الاتصال مع صديقتها التي لا تعلم شيئا عن ما جرى مع زوجها الخائن الذي يستلقي كل ليلة بجانب زوجته يوهمها بحب أبدي سرمدي لكن يهوى صديقة زوجته  إحسان التي كان قلبها متيم برجل آخر. 






Share To: