كان الظلام حالك والهدوء مريب ، حتى أنه كاد يصدق خياله _أنه استطاع التخلص من سطوة المكان و الزمان _كان لا يرى وهذا على ما يبدوا يريحه ، بيده سيجارة يخاف أن يشعلها وينبعث المكان لينقض عليه حين تكشف جسده النحيف شعلة القداحة ، هو لا يتنفس حتى أو لنقل أنه يهاب أن يصدر صوته ضجيجا يزعجه ويحرمه من غيابه
لا أحد ليمنعه أن يسافر عبر دروب الأبدية ما استطاع ، يحلق وسط الظلام كأنه ريشة ، وهو ينشد هذا الهروب ويصدقه تماما ، يرسم أمام عينه فضاء جديد ؛ عالم أوسع بكثير من عالمنا هذا ، حيث الأشياء تسبح في بلازما سوداء ، يشده ضوء لازوردي قادم من البعيد يحاول أن يسّرع وتيرة الحلم لعله يصل ، يقترب الضوء وترافقه خشخشة خافتة تكاد تكون صوتا ، يلهث وراء هذا التناغم طمعا في إدراك اللامدرك ، يبرز الضوء ثم يصير الصوت واضح نسبيا ، يميز أنه صوت جسم يشبه خطوات البشر يواصل نحو الأمام فرحا ، يعلوا الصوت حتى صار واضحا تماما إنها أقدام أدمية ، يفاجئه صوت قادم من بعيد
_ أيها الضحاك استفق .. !
يفتح عينيه بعسر بالغ ، على غرفة الكواليس غارقة في الظلمة وكل ما يضيئها مصباح أخضر أعلى الباب الحديدي هم للصراخ لكنه تراجع عن ذلك حينما أدرك وجود "الحزينة " وهي تحمل له كوب قهوة وابتسامة تؤثث وجهها كلوحة تفضي إلى عالم فضي ، كسر عبوسه بإبتسامة ، كلفته جهد كبير
تحدثه بحماس
_ اييه أيها الضحاك قم دعنا نحضر لعرض الليلة
يقف الضحاك يمشي نحو المرآة ، يحدق في وجهه
لا يتفوه بكلمة ، تشرع في رطش وجهه بألوان عديدة لتشكل على وجهه قناعا "المهرج " الباسم
يرتدي ملابسه الفضفاضة ، نسي ربطة العنق ، تذكره الحزينة يقف عند الباب الحديدي ينتظر إذن عامل الستار ليعتلي الركح.
كان أول لقاء بين الحزينة وصديقها الضحاك ، بين أسوار الجامعة ، الحزينة الفتاة القروية التي شقت طريق الصعاب لتتابع دراستها ، أما الضحاك لا يختلف عنها شأنه شأن كل العالقين بين تناقضات الواقع وومضات حلم قل ما يقال عنه لبسطه أنه ضرب من الخيال ، جمعهما حلم المسرح والتملص من مستنقع الفقر
وهو واقف أمام الباب الحديدي يذهب به خياله مرة أخرى بعيدا لكن ليس أبعد من واقع عاشه في زمن سالف ، يمحص النظر إلى باب غرفة الكواليس الذي لا يختلف كثيرا عن باب الزنزانة... أجل يقول لا فرق بينهما ، بل إنني أعرف شكل تلك الباب وأحفظه من فرط ما وقفت أمامها عاجزا ، كم وددت أن أحلق حينها ، لكن الزنزانة كانت تمنع ضوء الشمس التي توقد بداخلي رغبة التحليق
يأخذ نفسا عميقا ويدلف إلى هناك ...
والد الضحاك كان عامل بناء ، كان لا يتخاذل في تضحيته تجاه أسرته الصغيرة ، إلى حين غيبه الموت على إثر حادث شغل ، مات المعيل والمتهم كيس إسمنت
ليمنح شارة المسؤولية لإبه الضحاك أقصد عباس ،
ليقاوم كما كان يفعل والده تماما ، حاول مرارا أن يطالب بحق أسرته في تعويضات ضئيلة جدا جراء خسارتها الفادحة ، لكن رئيس الشركة تجاهله كأنه نملة ، لم يكن يقوى على مقارعة شخص بحجمه أمام عدالة القضاء ، فإستسلم وقبل بعرض هزيل وهو العمل في منصب والده ، ورث شقاء والده لكي لا نضخم الأمور .
كان عباس يتحمل وضعه فقط لأجل أمه وأخته الصغيرة ، حتى جاء يوم وألقاه الطاغية خارج ورشة البناء
هناك وقف عباس والحقد والمرارة يملأن عيناه ،
باغث رئيس شركة البناء في ركن مظلم أمام حانة ليرديه قتيلا
أمضى بسببها عشرون سنة خلف الجدران
كانت حينها الحزينة توفي بوعدها تجاه الضحاك ونصّبت نفسها فردا من عائلته وعملت على تقسيم راتبها بين أسرتها وأسرتها الأخرى ، اشتغلت أستاذة وأحيانا كانت تعمل على عرض المسرحيات الهزلية التي كان يكتبها عباس في السجن
تطلق موجة من التصفيقات غالبا مصدرها الجمهور الجالس خلف الستار ، وهم يترقبون بفارغ الصبر عرض المهرج الهزلي ، يفتح الستار فيدخل الضحاك ببطئ شديد يفحص وجوه الحاضرين ، يتوسط الخشبة ، من غرفة السينوغرافيا تطلق الحزينة موسيقى " البهلوان " ثم تنير إنارة حمراء على جوانب الخشبة وتسلط بقعة بيضاء مركزة على جسد الضحاك
، ظل الضحاك قابعا في مكانه والجمهور في ريبة من أمره يدرك أمه وأخته وسط الحاضرين لتسقط دمعتين من عينيه لتعبر وجنتيه تحرق معها خليط الألوان التي تزين وجههة ، يقف الكل مبهوتا ، تسرع الحزينة صوب الضحاك حاملة قماش أبيض فتلقيه عليه ثم يسقط ،
يقهقه الجمهور حتى امتلئت القاعة بأصواتهم ، رحل الكل عدى أم الضحاك وأخته ، نزل الستار
Post A Comment: