تهويمات في الساعة الهامدة من الليل ..
سرديات واقعية ...
** بوح وذاكرة ..

تحزم بتلك الآمال ، والأطياف تراوده ، الوقت يمضي ثقيلا وبطيئا ...هم بمشيته إلى الحديقة النضرة ،وقف أعلى الجسر الخشبي في حديقة تشرين الدمشقية ،فاجأه مياه النهر الآسنة ...وقال :
يا الله ...حتى المياه فقدت عذريتها ...واستدرك ، وحده الحب يلغي كل قباحات الإنسان ...
لكن العالم يبدو قاحلا ومجدبا ، شمسه كليلة ، حياة باردة كمثل  مدينة تعيش كآبة محيط متجمد...
يبدو واهن الخطوة ، واسع القلب ، طافح بالطعنات ، وكأن جبلا على كتفيه ...
تذكر بيته ، ابتسم ...
البيت تلزمه مكاغاة ترسم على جدرانه الفرح وضحكات الأطفال ، تماما كطفل يحبو ...
قطب جبينه ...
لكن البيت يشكو من ظلم ذوي القربة ، تناثرت حجارته ، وتحول الى ركام ، هناك ، حيث بقاياه على زاوية شارع الثلاثين ....
الصمت له طعم الموت ، الروح تنزف دما ...
 - هل من نكبات أخرى أيها القلب الحزين ؟
أغمض عينيه ، وهو يومئ إيماءة خفيفة برأسه ....
قال العرب قديما : الديار بأهلها ...لم يبق ديار ، وتشتت أهلها ....
ذات يوم ، شعر بأنه نجا من الغرق ، في لحظة كان يتعذر عليه القفز من السفينة التي تغمرها المياه ...أما وقد.غادرها فقد اعتقد أنه طوى صفحة مؤلمة ....
لكن هيهات ....
إنها الذاكرة لا تتركه بحاله ...يا لقساوتها ، وجعها يستبد به ، لدرجة يصبح غير قادر على احتمال الآن ....
بدأ يهيم في صحراء أفكاره ...
إن الحرب تشن منذ أزمان سحيقة ، على الأقل منذ أن قتل قابيل شقيقه هابيل ...
ولكن هذه الحرب الجهنمية القذرة ، تقتل الحجر ، والبشر ، والماضي ، والحاضر والمستقبل ، على نحو مختلف ....يا للهول..
العار على المواقف والأفعال والأقنعة التي تتبدل باستمرار ، وجوه تلبس أقفيتها ، وتفوح منها رائحة نتنة ....
يا للزمن القذر ...مخيم بوزن وطن ، دجنوه ، وسطحوه كحذاء ، وجعدوه كثوب عتيق ...
هاهي الأيام تمضي ، تأكل بعضها ...
بعد حين ، بعد سفر ، بعد موت جديد في بلاد الشمال البعيدة ..
كانت أمسية تتميز بطراوة لذيذة ...
فك ربطة عنقه ، ولعن الذي اخترعها ...الإنسان يخترع وسائل عبوديته بنفسه ، رحم الله أيام آدم ، وورقة التوت ...
كان ممزقا بين شعورين : الفرح ، والحزن في وقت واحد ..
فرحا ، لأنه وجد كل ما من حوله يهمس بحب وفرح ، الطبيعة الخلابة ، والبيت الجميل ، والعلاقات الدافئة ...
حزينا ، لأنه يرى أبناء جلدته ،  فقراء ، مهمشون ...سقطوا في أسفل الهاوية ...
إنهم ينتمون إلى حضارة مهزومة ...وعلى هذا وجد فرحه وحزنه ، يؤوب إلى نوع من الخيبة المتأملة ...
اعتراه رغبة شديدة في الهرب من كل شيء ، وحتى من الجسد الذي منح إياه ......
في تلك الزاوية في مقصف ذا جمال اسطوري مهيب ...كانت مائدتهما مطوقة بنباتات باسقة كثيفة ، تحجب الرؤية ، وتوحي بالحميمية المواتية للبوح ....
قال لها ، وقد نبتت في عقله فكرة مفاجئة ، ووجع تليد ذكره بوجعه :
إن للخيانة رائحة ، واضطهاد الآخر متأصل منذ القدم ....ذلك الرجل الذي فقد طاقته الروحية ، ضاعف من جبروته عبر طاقته الجسدية ، وافرط في استخدامها ....
يقول التاريخ الموغل في القدم :
(إن النبي داود ، رأى زوجة أوريا الحثي تستحم بماء النهر ، فأرسل في طلبها ، فجاءت إليه ونام معها ، ثم أمر بقتل زوجها وضمها إلى بيته، وولدت له النبي سليمان ....)
رفعت فنجان القهوة الذي تحمله ، وقرعته بفنجانه ...وقالت مبتسمة ، والعتب ينز من عينيها :
بصحتك ....عندما تجلس إلى المرأة يا عزيزي ، ليكن حديثك يدور باستمرار حول ذاتها ، وشيئا منه حول ذاتك ، حول علاقتكما ...
هل علي أن أحتفي بك كطفل ، وأصغي إليك كقائد ؟ 
ابتسم ...تأملها ، وكأنه للمرة الأولى يراها ...
كانت انثى حقيقية ، تفاحة ناضجة وطازجة ، جسد متناسق ، طويلة ، ذات شعر أسود ، وبشرة بيضاء، مسربة بالأحمر الوردي ، وعينين رماديتين تبدوان وكأنما تتغير ألوانهما حسب الضوء ....
سحره جمالها ، ورقتها ...إنها سيدة الدماثة ...
ترى ، ما الذي يرضي حاجات القلب المتعب ؟ 
شعرت أن عليها أن تقول شيئا ، يداوي جراحه العميقة ...
كانت تدرك أن شريكها من ذلك النوع من الرجال ، الذي يمكن أن تقع في حبه من دون أن تفقد احترامها لنفسها ...
قالت : 
بصحة أصدقاءك وأحبتك المشتتين في هذا العالم الظالم  ...
أجابها :
بصحة من بقي منهم على قيد الحياة ، على قيد الأمل ...
شاب نظر رفيقته ظل حزين ....تمالكت نفسها على الفور ، رفعت فنجانها من جديد لتقول ، بمزيج من الحزن والحسرة والحنان :
            بصحة من رحلوا ....
مع تباشير الصباح ، يناديه الفجر ، يشهق رذاذ الضوء المبلل بالندى ....
يبتسم ...غمرته رؤية شديدة الإشراق ...
الحياة جميلة ، يزقزق عصفور على الشرفة ...
ترى ، هل ما حدث كان حلما أم حقيقة ؟ 
                   


 
      (القدس الموحدة عاصمة فلسطين الأبدية )






Share To: