كانت انجلترا تتحرش بمصر منذ الاحتلال الفرنسي، أغراها في ذلك ثبوت أقدامهم نتيجة لإنصات نابليون لنصائح المستشرقين الذين أرسلهم إلى مصر وسوريا ولازموا وجود الاحتلال بمصر، الفرق الوحيد بين الدولتين هو أن فرنسا كانت تمزج سياسة خادعة ناعمة ظاهريا بخشونة عسكرية باطشة، بينما انجلترا التي كانت لا تغيب عنها الشمس في ذاك الوقت كانت تعتمد على قوتها العسكرية فحسب كإمبراطورية ممتدة، استعلاء وغطرسة وخشونة دائمة في التعامل مع المصريين.
المحتل أيا كان مسماه أو صفته لا يستيقظ صباح يوما ما وينوي في هذا اليوم احتلال بلد بعينها وإنما يتربص الدوائر بهذا البلد ويعد العدة ويدبج الخطط ويدرس كل الدقائق والتفصيلات ويصبح عليما بما لا يعلمه أهل البلد أنفسهم حتى يخترق هذا البلد من أضعف نقطة فيه، حتى إذا حل بخيله ورجله وجد أرضا ممهدة وأصبح سكان هذا البلد فاقدين التوازن من أثر الصخرة التي ألقيت فوق رؤوسهم لأنهم زيف وعيهم وغيبوا عن تقصد من الطابور الخامس فيصبحوا فاقدين القدرة على الفهم أو الاستيعاب مما يسفر عن حقيقة من كانوا يعدونهم أعلاما وهم ليسوا إلا هياكل كرتونية جوفاء، كذبة كبيرة اشترك الجموع في صناعتهم وتزيين زيفهم في آن، لذا مارس المحتل خدعة خالت على من لا ينظرون سوى تحت أقدامهم ألا وهي الإتيان بدمية صنعت على عينه يحركها كيف يشاء، يرسم له المدى الذي يتحرك فيه وله دور محدد إن أتمه يتم الإطاحة به والإتيان بغيره (منديل ورقي)، بمعنى أنه دائما وأبدا يتحرك بين قوسين لا يتعداهما وسقف محدود، المحتل هو من يحدد ارتفاعه.
محمد علي الألباني عينه المحتل للقضاء على الدولة العثمانية التي تحوي كتلة ممتدة، ومهما يكن بها من مشاكل متراكمة وعلل فهي في كل الأحوال كتلة هيكلية تهدد فكر المحتل وحائط صد لأهدافه التي يسعى بكل الطرق والوسائل الممكنة وغير الممكنة إلى تحقيقها والتي هي بالقطع ضد كل الدول داخل الكتلة العثمانية، ولكن محمد علي تاجر الدخان تصور أنه سيتمدد ليصنع امبراطورية تناهض الدولة العثمانية وتناطح انجلترا التي لا تغيب عنها الشمس آنذاك، ليلتف عليها ويسلب ما تبقى لها من قوة عن طريق التوغل داخل أوروبا مبتدأ باليونان فلما شعرت انجلترا بتجاوز دميتها قامت بكبحه وإجباره على التوقيع على معاهدة 1840 لتحديد ولايته بالتوريث له ولأولاده والتي هي مصر والسودان وليبيا والشام والالتزام بتقديم الغلال لبلاد الحرمين، ومنذ هذه اللحظة ومصر جزء من نظرية الأمن الأوروبية فارتبطت الممارسة السياسية الأوروبية مع مصر على أنها جزء من سياستها الأمنية، وظلت على هذا حتى قامت ثورة 1919 لإجبار بريطانيا بالجلاء عن مصر فعقدت معها اتفاقية الجلاء 1936 فلما ماطلت بريطانيا في تنفيذ الاتفاقية انتظمت صفوف المصريين في مقاومة المحتل حتى تم توقيع اتفاقية الجلاء الثانية 1952 لتجلو انجلترا عن مصر 1954 بعد أن خفت نجمها على المسرح الدولي وبدأ صعود نجم الولايات المتحدة الأمريكية التي تعاملت مع مصر بنفس نظرية الأمن القومي خاصة مع وجود القضية الفلسطينية لتبقى الراعي الرسمي للكيان الغاصب لفلسطين والذي زرعته انجلترا
لتكون صورتهم وكيانهم في قلب بلادنا وتكون نقطة الحبر التي أفسدت كوب اللبن.
انجلترا البارة بالمسلمين:
ضربت الأسكندرية في سبتمبر 1882 لم يعفوا منهم المرأة والطفل والشيخ والعجوز
كان عرابي قد حصل على وعد من ديليسبس بأن فرنسا لن تسمح لانجلترا عبور القناة إلى التل الكبير “وصدقه عرابي” ولكنه ما لبث أن مرر ديلسيبس الإنجليز من القناة الذين اتجهوا شرق الدلتا لملاقاة عرابي وجيشه وقبل بلوغ التل الكبير كانوا قد اشتروا بالذهب والمال بعض ضعاف النفوس من الأعراب وبعض الضباط، وسار الانجليز مسترشدين بالخونة ولذلك أعملوا فيهم القتل المريع، ومن جنود عرابي من فر طلبا للنجاة ومن الجنود من ظل يقاوم حتى نفاذ الذخيرة فدخلوا على العرابيين وهم يعلمون أدق التفاصيل فكان من السهل أن يحققوا أسرع نصر عليهم مما جعلهم يواصلون التقدم إلى القاهرة بأمان،أما عرابي فقد نصحه بعض رجاله بالفرار خشية الوقوع في أيدي الإنجليز ففر إلى القاهرة، وقدر بلنت أعداد القتلى والجرحى بعشرة آلاف ولقد قال ولسلي قائد جيش الاحتلال أثناء مناقشة المسألة المصرية داخل البرلمان الانجليزي:
«لو أن عرابي سد القناة كما كان ينوي ذلك لكنا الآن لا نزال بالبحر نحاصر مصر ولكن تأخر عرابي 24 ساعة نجانا»
وما إن دخلوا القاهرة حتى نشروا الجواسيس والعملاء في كل مكان وأشاعوا الفتن بين عرابي وجيشه وبين العمد والمشايخ وأشاعوا أن عرابي وجيشه هم ثلة من الخونة المارقين الإرهابيين الواجب ملاحقتهم والإبلاغ عنهم، وهكذا لعبت الخيانة وسوء تقدير الموقف دورا هاما في أن يجثم الإنجليز على الدولة المصرية 74 عاما أذاقوا المصريين فيها الويلات.
استولى الإنجليز على القلعة وثكنة قصر النيل دون مقاومة وسلم عرابي ورفاقه أنفسهم للسلطة الإنجليزية وملأت السجون بالكثير من الضباط والأعيان والتجار والموظفين ممن عرف عنهم مولاتهم لعرابي، أما الخديوي توفيق فهو مثل جده موالي تماما للإنجليز أكثر من مولاته للمصريين، فاستقبل كبار قادة الجيش الانجليزي كما لو كانوا فاتحين وأولم لهم الولائم وخلع عليهم الرتب والنياشين وكأن احتلال مصر عمل عظيم يستوجب أن يحتفي بهم، وعلى الفور أقيمت المحاكم العسكرية لمن قاوم المحتل فحكم بالإعدام على أحمد عرابي ومحمود سامي البارودي ومحمود فهمي ويعقوب سامي وعبد العال حلمي وعلي فهمي الديب وطلبه عصمت وهؤلاء جميعا باشوات، ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم وتجريدهم جميعا من الرتب والنياشين التي تحصلوا عليها، ثم خفف الحكم بالنفي المؤبد إلى جزيرة سيلان ولكن بعد تسع سنوات كان حاكم مصر هو الخديوي عباس حلمي الثاني الذي أصدر بالعفو عن عرابي فعاد إلى مصر عاش عشر سنوات ثم توفي بها، ومن العجيب أن المسئولين الإنجليز كانوا دائما يقولون أن احتلالهم لمصر إجراء مؤقت لإعادة النظام للبلاد وتثبيت حكم الخديوي، وتلى هذا التصريح الكثير من الوعود بمغادرة مصر ولكن لم يتحقق منها أي وعد فالمحتل لا يرحل إلا بالدم والحديد والنار.
ومن أعاجيب انجلترا أنه غداة تأميم قناة السويس قال أنطوني أيدن رئيس وزراءها أن عبد الناصر سرق القناة بينما هم سراق مصر بأكملها.
ظلت انجلترا في مفاوضات ومؤتمرات واجتماعات للمرواغة بينما هي من تضمر الاحتلال الأبدي لمصر لضمها إلى مستعمراتها الأفريقية للسيطرة على البحرين الأحمر والمتوسط من خلال مضيق جبل طارق وبورسعيد والسويس والقناة الموصلة بينهما ومضيق باب المندب الذي قادهم لاحتلال عدن فيما بعد، ودائما وأبدا ما يقال في العلن غير الحقيقة التي يتم امتلاكها على الأرض في غفلة من السذج الذين يفتقرون إلى العلم الذي يقودهم إلى استشعار الخطر عن بعد فكيف وهم يجهلون الخطر الماحق بهم والواغلين فيه؟!!
كان سلوك السلطة الإنجليزية على الأرض مغايرا لجملة ادعاءاتهم فعلى نقيض المحتل الفرنسي الذي لم يفكر في سلك سلوك المقيم بصفة دائمة إلا في العام الأخير من سنواته الثلاث فإن انجلترا سلكت منذ اللحظة الأولى سلوك المقيم إقامة أبدية فأنشأت المنشآت التي تخدم اقتصادها وليس لخير مصر، فكانت تستولي على محاصيلها الزراعية خاصة القطن لمصانعها في لنكشير فضلا عن تصريف بقية السلع في أسواقها الممتدة بآسيا وأفريقيا، بالإضافة إلى فكرها كإمبراطورية تسعى إلى ما يؤمن ويوطد أقدامها فقد كانت تخاف دائما من احتلال دولة معادية لها لمصر (هيتخاف من دولة أخرى ولكنها لا تخاف مصر نفسها بمفردها) فتصبح خطرا على إمبراطوريتها بالهند لذا فإن احتلال مصر بثها الأمان وزادت أهميتها بالنسبة إليها بعد خوضها الحربين العالميتين الأولى والثانية وما قدمته لها مصر من مساعدات رغما عنها مما ساعدها على الانتصار على أعدائها، وكما أن جنوب أفريقيا هي الباب الخلفي لأفريقيا بالنسبة لانجلترا فإن مصر هي الباب الأمامي لأفريقيا مما يقودها بسهولة إلى وسط القارة السمراء الثريدة الثرية.
وللحديث بقية إن شاء الله
Post A Comment: