لم أكن مجنونا حين أعلنت عن غروب الشمس في عز الصباح، فحضن الزمن الحار والحقيقي هي آفاق العيون في تراميها وما تخفي الصدور، و ليس في ذلك من نصيب لقوانين الفيزياء وقواعدها، هكذا تمردت في لحظة مارقة من التاريخ على نواميس الوجود، لاني كنت ساعتها انتشل نفسي من فيوضات الحسن وهي تغمرني بينابيعها المتفجرة منك، أمام من كنت أحسبهم أشهاد وليس محض أجساد، أمام الذين يحملون أرفه الساعات، المذهبة الأطر على معاصمهم، ويمشون بغير قصد في الأسواق الجديدة! أي نهار هذا الذي يساوي بينك وبين التفاح وتمر الهند، بينك وبين تماثيل الحديد القادمة من البلاد البعيدة الباردة!

لم أكن مجنونا نعم، ولا استحق أن أوضع في المصحة، مثلما يخيل لهؤلاء، فأنا لا زلت أحتفظ بذاكرة الربيع وروائح شمسه الرطبة التي لم تبرح أرنبة أنفي، هكذا شممت جسدك المعطر ببقايا من إرث التاريخ وهلكت حركة الاشياء لتوها في عتمات العدم التي حجبت الوجود، كنت الضاحكة لنفسك ممن هم حولك وهم ينبشون بأعينهم أرض الأرصفة الجديدة من قبل أن تُغلف بخزف من أصل بري، عن أثار مشي قديمة، أمشي وصوت أنفاسك ونسيمه يجذبني، كما تجذب الغواية نفوسا ظامئة، ودقات قلبك تركز في صدري وتهز  داخلي فأجدني أضيع خلفك وسط زحمات أشياء العدم، وجرس خفيف ينبعث من حُلي يديك ينسج نغما رقيقا أخاذ كنت استلذه بمسمعي المرهف مع عبق البخور في أعراس الحي القديم قبل أن يُهدم بقرار كُتب بليل لتُلحق أرضه الحمراء التي لم تزلها مخضبة بعرق السنين بسوق الهواتف المحمولة!

لا ادري أي طعم هذا الذي استدرج إرادتي ولم يكتف بأن محا كل المواعيد من أجندتي، بل محا الوجود كله من خيالي، ساعتئذ أدركت حقا أن مرآة الوجود إنما هي الخيال، ساعة يومي قامت وانفجرت بداخلي حين نزلت بقدك الممشوق من الطاكسي الأصفر، ولثمت قدمك اليمنى جلد أرض الرصيف حيث كنت اعتدت الوقوف من يوم أدركت الزمن!، خلت إذ ذاك أن الملائكة قد غضبت من نزيف الأرض وقررت استردادها وإشاعة الربيع في كامل ربوعها! الملائكة ظلت بطلة أحلامي الأولى قبل النوم من يوم قيل لي أنها تحرس طفولتك، ها هي ذي قد جاءت لتأنس شبابي في زمن يتهددني فيه أطفال كبار، غلاظ شداد، لا يرون وجوههم في المرايا، لا يرون في موسيقى عقارب الساعات التي على معاصمهم عزف لموسيقى الزمن بل إيقاع مشي استعراضي لعساكر آتية غازية من أدغال الماضي، لأول مرة انعدم الزمان والمكان في داخل وخارجي، كانت جوارحي تتراقص في أسر المجهول.. 

حاولت أن الحقك وأضع يدي على كتفك لأخربك أن الفصول الأربعة قد انتحرت وانتحت، وبالمرة أقول لك أنا الوحيد الذي بات يشم الربيع ويجمع الشمس والقمر في داخله ولا يفلت النور من بؤبؤي عينيه الكحيلين كثقبين أسودين، أنا الوحيد الذي خلع جسده وانمحى من الوجود وتحرر من أسر الأصوات والرؤى، لذلك أنا الوحيد الذي بوسعه أن يلمس كتفك البض الندي..

والغريب أن كل الضمائر، المخاطبة والغائبة والمفردة والمجموعة، لحقها دمار التاريخ في لحظة لحاق بك، فقد كنت غير "أنت" في تعاريف "الأنت" و"الهو" وكل إشارة تضبط مرور هؤلاء بالسوق، ماضية أمام ناظري ولكنك لا تصعدين ولا تنزلين ولا تتوقفين ولا تمشين، ومع هذا أجهد أنا بكل ما أتيح لي من قوى الحركة لألحقك، احترت من منا يمشي ومن هو متوقف! أي وضع هذا الذي وجدتني فيه.

وللتو تذكرت أين وجدتك أو بالأحرى أين رأيتك، أخذت أسرع في الخطو أرفع من والوتيرة، من المشي إلى الهرولة، أتخلص من العدم الذي شملني ويكاد يكبلني، لأنصحك بالتوقف وعدم التقدم، ففي سكون العدم صار يموت الجمال سفحا بالسيوف والسكاكين، أكابد الذاكرة العليلة لاستحضر جوهرة اسمك، كنت قد حشرتها مذ وصلت كوكب جمالك المترامي في أزمنة الضوء أول مرة، كوكب وضيء لا يحتاج لمسبار بل هو يرى بالعين المجردة، حشرت جوهرة اسمك في زاوية نظيفة من الذاكرة خشية أن تختلط بالبالي من الأسامي والألفاظ، لكن خريطة الذاكرة كانت قد استحالت لحظتها إلى متاهة وعرة.

لا يليق بك لفظ "الأنت" حتى استوقفك به، كنت أسمى وأجمل وأجل من هذا الضمير الذي انشق وتمرد وطغى على عائلته من باقي الضمائر، امتنعت عن نعتك بـ "أنت" حتى في سر صدري، ورغم تعب اللحاق بك الذي كان عذابا مقيما كعذاب الخلد في فضاء اللا مكان واللا زمان، والأصعب والأعذب في ذات الوقت أني شعرتني أعشقك بلا اسم وبلا رؤية وبلا زمان ولا مكان، كم هو ذابح هذا العشق خلف ظهر الهوية، كنت على حافة العدم انسحق من أجلك، ألقي بجسدي خلف ظلك لتناله السيوف الصدئة فيتمزق فداء لك يا قاهرة قوانين الكون، يا مستثيرة غيرة نور الشمس وضياء القمر وهما قرصان صغيران أكاد أرى تفاهتهما اللحظة في راحة يدي!

كيف أنك لم تسمع صوتا وهو يفتديك وسط صمم الموت الأخرس الأخنس المنبعث من عدم الامكنة والأزمنة؟ لمَ إصرارك هذا على ولوج السوق المعلق في علياء الاجساد النائحة؟ وأنا المتمرد الوحيد على قانون العدم الذي بوسعه أن يراك مثلما تريدين أن يراك، لا كما يريد الضائعون في مزارع هذا العدم أن يروك.

كنت أرجو نصف استدارة من وجهك القمري نحوي، لأرى ابتسامتك علها ذكرتني بجوهرة اسمك، نعم كنت على علم أنك مبتسمة في غير موضع التبسم، كنت على يقين أنك مزهوة بأصداع السوق، وضجيج أشيائه، كنت أتقطع حسرة وغيرة وخوفا عليك ممن هم أمامك، ونعيم عينيك يصيبهم من دوني بفيوضاته الجارفة البهية..

فجأة، أفلتت من متاهة الذاكرة، استحضرت خرائطها وأزلت التراب من على موضع جوهرة اسمك، انفلت مني العدم فتحت يدي فوجدت الشمس والقمر وقد ضاعا من قبضتي، أدركت للتو أنه تم احباط تمردي التاريخي، وصوت الأسر الذي تهددني صار كالرعد يخترق طبلة أذني أحاول مجددا الخلاص من قوانين الوجود وخيالك ينسحق أمامي شيئا فشيئا في مسافات البعاد، ماضية أنت ولا تلوين على شيء، صوب مكان ممتد الى نقطة زوال في لوحة ناظري، تذوبين في سراب صيف يفيض في الأوهام، والسيوف الصدئة تتعقبك تخطئ ضرباتها الواحدة تلوى الأخرى ظلالك تحت ضياء القمر المترهل والناس في السوق  يرقصون على ايقاع الأرض وهي لحظتها طبل يرجع صدى خطو كعبي قدميك وإيقاع صليل تلكم السيوف القديمة التي عُلقت وهي محشوة في أغمادها لقرون عدة على جدران الحي العتيق قبل أن يهدم وتسلم أرضه للسوق، صار شيء يضطرم، يزدحم في أحشائي، يزحف متصاعدا بداخلي، يكاد يفجر قفص صدري ليقتلع حنجرتي وإذا باسم "هديل" يندفع بقوة من فمي فيهز جنبات الطائرة ليتخطف صداه أسماع الراكبين حتى كاد يغطي عن صوت المضيفة وهي تعلن:

لحظات وتهبط الطائرة بمطار بيروت الدولي!

رأيتك بعدها على أرض أول مرة في انتظاري بحظيرة المطار تحت الشمس تحملين يافطة عليها إسمي، رفعت وجهي صوب زرقتها، تشممت السماء فتشت في زوايا فلكها عن الشمس ولم أعلن حينها مرة أخرى عن الغروب في وضح الصباح، لأني رأيت الشمس تستضيء بألق وجهك فأدركت وأنا أقف قبالتك، لمَ لم يغب نورك يوما عني، حتى وهو يلمع في أقاصي البعاد. 








Share To: