خرج هو الآخر من بيته مباشرة بعد أن علت الشمس قمة جبل المدينة والخوف من أن يصطاده حرف واحد من حروف البيان الذي صُدع به ليلا يتنهش نفسه، كان يدرك كما غيره أنه ليس لأحد من سبيل أو بديل سوى انفاذ الاوامر والإذعان لنص البيان، صار يخال نفسه بين الفينة والأخرى واقع في قبضة ضباط أمن بتهمة التمرد أو حتى التحريض على العصيان !

جذب باب البيت بقوة بعد اذ اجتاز عتبته و قبل أن يستدير باتجاه الطريق.. وقف أمام الباب لبضع من الثواني، كما لو كان مستطيله الحديدي المقلوب مرآته التي من خلالها يرى ملامحه، ويعيد ترتيب هندامه وأفكاره.. وضع نظارته السوداء ثم رفع رأسه صوب رأس الشارع الطويل، وغطى قفاه جيدا حين نصب طوق الرقبة العلوي لمعطفه الاسود الطويل ثم سلك حال من لا يعرف أي أحد ولا يعرفه أي إنسان..

أخذ يسارع ويعلي من وتيرة سرعة خطوه ملتصقا بأحيط الشارع الذائب في صمت كما لو كان يسابق ظله ! مضى مستقيم النظر.. مكبل اللسان.. شفتاه في عناق حار وتام لا يتخللهما الريح ولا يلمع منهما سائل، قرر للتو أن يرفع من درجة الحذر فلا يرد على تحية أحد، غريب كان أو من أبناء الجيران، سواء من الرجال كان أو من النسوان...حتى لأنه سمع شيخ المسجد الذي فرح بتوبته ذات يوم، وهو يمر حينها بالقرب منه يوشوش لمن يمضي معه "لمَ لا يرُد تحية السلام؟ أوتراه قد عاد مجددا الإدمان !".

فجأة كهربته الذاكرة بصعقات خفيفة، فتوقف عن السير في منتصف الطريق كمخبول الضائع في متاهات المدينة، واضعا راحة يده اليسرى التي بالكاد استطاع أن يسحبها من جيب معطفه الدافئ العميق على  جبينه:

"لمَ صرت هكذا يا حمدان؟ تضيع في حاجات يومك..مرعوب غافل في الغالب الأعم عن أمهات أشيائك " وعلي حين غرة اصطادته من القفا والحزام قبضتان قويتان جعلتاه لفرط شدتهما وقوتهما يعوي في داخله، ويلعن الذاكرة ويندم على نعمة النسيان، وشتم في صمت طوق المعطف الخشن الذي لم يقه من عين ولا يد ولا برد، ودون أن يترك له الوسع ليستدير اجتاح طلبة أذنيه بسؤالين مدويين:

ـ لمَ توقفت هكذا فجأة وهنا بالذات في منتصف الطريق يا حيوان؟ أما ترى أنك تعطل المرور، ثم مع من ضبطتك تتكلم يا شيطان؟ 

ـ مع ذاكرتي يا قائد الخفر كنت أتحدث، بل في الحقيقة هي من كلمتني حين سألتني لمَ خرجت من غير نقود النقل و البطاقتين؟

كان يحاوره الضابط عبر ظل الحائط الكبير حيث لا يرى سوى ظل قبضته القوية وهي تدك ظل قفاه والنظارته الشمسية السوداء توشك أن تقع من وجهه على الأرض، فصاح الضابط في قفاه: 

إذا فهما خطيئتان يا ابن الـ... واحدة عن الخروج بدون بطاقتي الهوية والائتمان والثانية بخرق توصيات البيان؟

للتو اهتز قلبه إلى حد كاد معه أن ينقلب ويخفق باتجاه ظهره، وهو يعترف بأنه بات يحمل ذاكرة بلهاء متأخرة دوما في زمن البيانات المتسارعة، فوجد نفسه يعترف أمامه بالخطيئة، ورجاه بصوت رخو ذليل الغفران، فقال له الضابط:

ـ كيف تجرؤ أنت؟ وترجوني أن أكون عبثيا مثلك أدوس على القوانين وأمشي وقتما شاءت نزواتي وأتوقف حين يأمرني رأسي، وأتجاوز لك عن جناية كبرى كجناية العصيان؟

تسلح الرجل ببعض بقايا الشجاعة وتجرأ على الضابط بطرح السؤال:

ـ وأين أنا من العصيان حضرتك؟

ـ قلنا لا تجمع حاليا لأكثر من شخص واحد خارج البيوت فلما خالفت الأوامر ! 

ـ ولكنني التزمت بكل ما جاء في نص البيان بالزيادة ودون نقصان، حتى أنني رفضت اصطحاب زوجتي اليوم في موعدها الى عيادة  طبيب النساء ليكشف عن وضع الجنين فنتورط في حساب البيان ونغد ثلاثو بل إثنان، ولم أوصل كالعادة ابني الى مدرسة ولا إلى الكتّاب لحفظ القرآن بل رسمت له طريق واحد للذهاب والأياب على غلاف الكراس، واعتذرت لوالدي عن ابلاغه بموعد الآذان، حتى لا يخطئ  هو الآخر في حق البيان !

ولكنك عصيت بيان الحكومة حين حدثت ذاكرتك أمام دكاكين بيع علب سجائر التدخين، ألم تعلم أنكما مصوران في كاميرات الرقابة أمامك الآلية اثنان؟

وأشار إليها بماسورة بندقيته ! 

- ولكن أي أثنين؟ كنت أنا وحدي مع ذاكرتي الضائعة بداخلي فقط!

فكشف له الشرطي عبر الكاميرا عن جسده وظله وهما يتحاوران على الحائط ويتعاتبان بشأن نسيان باطاقة الهوية..

أمسك الرجل لسانه عن الكلام.. ركب مع الضابط وجنديين سيارة عليها جرس إنذار وعلى جانبها وشم هلال بلون الدم قيل أنها للإسعاف، توقفت بهم عند باب بناية كبيرة وجديد بالمدينة قيل أن أحد المقاولين المخلصين للوطن من أبناء المنطقة قد تطوع وبناها هدية  منه للسكان ! وما إن دخل غرفة صغيرة مكتوب فوق إطار بابها صفران، حتى لجم الرجل فمه وشدّ لجامه بقطعة بيضاء من القماش فاستغرب منه الشخصان اللذان اقتاده إلى جوفها إذ رآه يفعل، فقالا له:

ـ ماذا جرى لعقلك؟ هل أصابك مس أحد من الإنس أو الجان؟

 لم يجبهما بشيء مما يُسمع! طبعا خشي على نفسه من أن يعيد معصية البيان ويتحمل مجددا العقوبتين .

وفي الصباح التالي فتح باب الزنزانة الحارسان ليأخذاه إلى قاضي التحقيق بمحكمة الجنايات الكبرى، فألفياه مشنوقا بخرقة القماش الأبيض وتحت قدميه ورقة بيضاء لطخها بسؤالين؟

ـ و الآن هل أحسنت إطاعة البيان؟ وكم ترون أمامكم لي من جثمان؟ 

 








Share To: