ما توقع قط أن يبادرة مابشرة إثر التحية بذلك السؤال الغريب العجيب، حين عاد إليه بعد يومين كما اتفقا عليه مسبقا، ليسترد أمانته بعد فحصها، لحظتها لم يدر إن كان الشيخ بصدد فتح علبة أحجار الشطرنج العتيقة ونشر رقعتها على تلك الطاولة الريفية القديمة، أم أنه يجمع العلبة، فالأكيد لا أحد كان ينازله على رقعة شطرنج تلك، وسط صمت الطبيعة الدائم، والأوكد منه أنه لم يكن ينتظر وصوله ليلعب معه، لأنه تأخر عن الساعة المتفق عليها، ولأنه أيضا ابن الصحراء ملول للعب في المساحات الضيقة:
- أسمعت صوت السفن؟ هل لا تزال ترسو بالميناء؟
فرد عليه في دهشة:
- أنا لا أسمع سوى صوت سفن الصحراء التي هي أصلا بلا صوت، فكيف لي بسماع سفن البحر العائمة بالمياه المالحة البعيدة..
ضحك الشيخ ضحكة خافتة وقال له:
- كلامك صحيح، لكن يبدو أنها لا تزال ترسوا بالميناء !
- وهل سمعتها أنت يا شيخنا؟
- كلا ولكني أكلت العدس بمذاق أكياس علف الدواب خمس مرات هذا الشهر يا بني !
نظر إلى الدهشة التي علقت مجددا بوجه الفتى من إجابته، مبتسما بشيء من حيلة أهل الريف الحار، ثم قال له وهو يحمل الأميرة والملك بين وسطى، سبابة وإبهام يده اليسرى المرتعشة في صراع الجسد والعمر، والمتفجرة بنتوءات العمر البنية، عروق زرقاء كأنابيب النفط الممتدة على صدر الصحراء :
- العالم يا بُني كفَّ عن أن يكون مصدر أحلام الناس، رغم كل خيرات الحلم المترامية في أرجائه !
أجابه الفتي وهو يساعده في لملمة الأحجار التي صارت تتساقط من على صحن الطاولة، بفعل زيادة ارتعاش يده وأضعها داخل علبتها:
- تريد أن تقول لم يعد مصدر للإلهام؟
- لا للأحلام قلت !
احتار الفتى من أمر الشيخ ! ما حاجته للأحلام وهو في هذا السن؟ فهو إلى يومها كان أعتقد أن الأحلام أقدم سينما على الطبيعة للإنسان، وهبة الله إياها مجانا ليدفن خيباته تحت الشمس، فيها يطير التعيس بلا أجنحة في السماء، يمارس المكبوت حبه مع من يعشق، يأكل المعدوم من لحم طائر الفازان ! نعم سينما تغزر إنتاجا إقبال العمر وتنضب مع إدباره، حاول أن يعرف طبيعة أزمة الأحلام التي يعانيها هذا الشيخ الذي يحرص بين الفينة والأخرى، والكوب يرقص في يمناه بما فيه، على إسماعه بشفتيه الذابلتين صوت رشفة الشاي بالنعناع، ويقول له إذ يرى الحيرة تعلو وجهه من لعبه للشطرنج بعد عتبة الثمانين؟
- لا أزال في حاجة إلى المزيد من الذكاء لأسترد قدرتي على الحلم، تصور !
شعر الفتى بانقباض، لم يفهم ما علاقة الذكاء بالحلم، صحيح أن صديقه أحمد الطبيب النفساني أخبره من سنين بأن شباب البلدة ممن كانوا يزورن عيادته، كانوا يعانون من أزمة نضوب الأحلام وما فاقم أكثر من مشكلتهم الصحية تلك، هو عدم وجود ذكاء خارج اليقظة، أي مفسرين للأحلام بالشكل الكافي على الصحف والمجلات في الموقع العربية، التي حرصت دوما على توظيف محللين لأحداث الدم والسياسة والمال عوض تحليل وتأويل رؤى المقهورين من المشاهدين والقراء، أما اليوم فقد باتت الأحلام طائرة على صحون عابرة للقارة عبر الماسنجر وهذيان الحواسيب والهواتف التي لا تنطفئ، ولا تشبع من الشحن، لكنه لم يخبره يوما أن الذكاء شرطا مهما في صياغة أو صناعة الحلم !
- هل تريد أن ألعب معك مباراة على رقعة الشطرنج؟
- بالكاد انتهيت فأنا الآن متعب؟
- مع من لعبت؟
- مع نفسي !
- مع نفسك ؟
- نعم، في الصحراء علينا أن نسبح جيدا في قعر بحر صمتها، ولن يتأتى ذلك إلا بالمثول أمام النفس ومغالبتها وبحياد ونزاهة على رقعة ما..
- من ربح المعركة أنت أم هي؟
- لا أدري ولست أهتم، منطق الربح والخسارة هو بعيد عن أهدافي، حتى عندما كنت شابا أشارك في مسابقات الخيول، أريد أن استزيد ذكاء لأنعش الأحلام في ليلا !
قال له الفتى لحظتها أن الطبيب أخبره بأن الأذكياء أقل أحلاما بالليل وأن الأغبياء هم روادها على أفرشتهم الأرضية الباردة..
فرد:
- ربما.. لكن عالما بلا أحلام عالم أعمى وهكذا أراه يجرف كل شيء جميل أمامه بلا تبصر.. تخيل البارحة عادت إلي برشاقة الأنثى الأنيقة المتألقة بسوالفها السوداء الطويلة كالغمامة الراكبة لموج الريح تحت الشمس، تدك بقوائمها الأرض فيرتج العالم كما النقود المعدنية في كفي، ضمتني إليها بقوة دفع ستة أحصنة، أبدا لم تدهسني، بل شعرت بذلك العنق الحار النافثة منه عطر الأنوثة، خضبته بدموع قديمة مختزنة في محجري رجل في الثمانين حولا، شعرت به يخترق مسمات رقبتها الطويلة الناعمة، كانت تصيح وترقص بقدِّها الفارع العربي البارع، الممشوق أمامي، من غير موسيقى صاخبة فقط إيقاع طُروبٍ خافتة لا يعزفها سوى رنين الأشواق، ولا تسمعها سوى آذان القلب العاشق، أنارت فتنة بعري قدها العربي الأحمر ظلمة الطبيعة بداخلي في وضح النهار، كل تلك التراع الجافة التي تراها أمامك الآن لمعت فجأة حقولها بألوان البندورة وأشجارها بروائح تفاح الخطيئة فرحا بعودتها، وتفجرت الحجارة بالماء ورأيت العصا تحاول الإفلات من قبضتي حتى وجدتني استوي مجددا على عود شبابي الصلب وأقف على قدمي..
استجمع الفتى كل مفردات الحياء، وقد شعر بصحته تتململ والغريزة فيه قد استيقظت أخيرا بلا خلطة من أعشاب عدة يشدها عسل البوادي الأصيل الصافي كما وصفوها له، فسأله له:
- منذ متى افترقتما؟
- مذ سقط سوق النفط !
كما لو أن الفتى تأكد حينها من خطورة الذكاء على صحته الآن بعدما صار إلى هذا السن، أخطر شيء على البشرية أن يطلب شيوخها ذكاء إضافيا في دابر العمر، فساعتها سيكونون كما لو طلبوا الفياغرا لترميم أطلال اللذة، أحس بنشاز العمر.. صورة للجسد الأول مخلوط بالحلم الأخير، حيث تراء له الشيخ في صورة جسده المتهالة، لكن بحركة شاب يفع بذكائه الفطري، يقفز على جداول الماء، يمشي ويجيء بين الحقول الفلاحية على حماره، يقفُ أثر الصبية والبصل الذي غرسه وعالجه من غير أسمدة كيماوية وحصده وباعه بثمن بخس في السوق لا يزال يفوح منه أمام عراها ولذة فتنتها..
عاد مجددا لسؤاله:
- لم أفهم يا شيخنا ما علاقة الحب بالنفط؟
- في بلادنا هي العلاقة موت أو حياة؟
- هل هي من هجرك؟
- لا أنا من باعها، لأنها رفضت أن تقاسمني صحن العدس القادم في أكياس بمذاق علف البهائم على سفن المياه الشرقية.
- وبعتها؟
- نعم وبعتها !
- ومن ذا الذي اشتراها منك وفي أي سوق؟
فجأة جاء صوتها من نافدة الكوخ:
- الطعام بات جاهزا هيا تعال أنت وضيفك العزيز؟
رمقها بنظرة خاطفة كانت بذات تجاعيد أرض تلك الحقول الجرداء الظمآنة، شعرُ يهزم بكومته البيضاء قوة الريح، وقدٌ بالكاد يقف معتمدا على إطار النافذة !
- الحكومة ! نعم.. أممت كل الخيول بعدما جف بطن وظهر الأرض، لقد كانت أجمل فرس في مجمع الخيول المؤممة، عدت في اليوم الثاني لأراها من كوة بجدار الاسطبلات فلم أجدها..
شعر الفتى بدوار يصعد معه، ورقَّ لدمع الشيخ الذي لمع بغير لون الماء مع حمرة شفق المغيب، ساعده على القيام والعودة إلى كوخ حقله الصغير لتناول العشاء، وهو يتأبط علبة الشطرنج.. اعتذر عن دعوتهما للطعام وقبل أن يسحب الباب خلف الشيخ وهو يتجاوز ببطء عتبة الكوخ، تذكر لما زاره في ذلك القحل البائر، لكنه شعر بعدم الحاجة لغرض مقدمه، بل لعدم جدوى سؤال العجوز:
- هل ميزت لي الأصيل من المصطنع في زجاجتي العسل لأصنع دوائي؟
Post A Comment: