قبيل رمضان بيوم وعدة ساعات، شهر يفصلنا عنه شعور ووميض اشتياق، في الساعات الأخيرة من الليل، أصعد إلى سطح البيت متسللاً في الظلام، ماشياً على رأس أصابع الأقدام، خوفاً من حدوث ضجة أو حركة تزعج من هم على الأسِرة يائسين ونيام، وحشة حالكة تحيط بالسماء، تصوب ناحية النجوم سهام العتمة، وتُكبل السحاب بقيود الخوف الذي ينبعث من ملامح الليل الحزين، أصعد إلى أعلى مكان في السطح، أنظر نظرة حادة إلى الارجاء، أتحسس اذرعي وكل ذراع يمسح أخيه ليزيل عنه برودة الطقس، أصوات طيور الليل تزداد تارة وتنخفض تارة أخرى، تبعث الخوف وتغتال الأمان.
نظرا إلى الارجاء فرأيت شجرة تنزوي في زواية الحقل متحسرة على هلاكها، تتمايل أغصانها التي تبقى فيها رطوبة بثقلٍ شديد، باكية حزينه، تناجي الطبيعة، وتناشد الرياح بتمتمات عجيبة، تتضرع السحاب، وتنظر نحو النجوم علها ترحم حالها وتبلغ إله السماء ليرسل غيمة ماطرة تروي جذورها، وتعيد لها حلتها الزاخرة. وأما الطبيعة فكانت تارة غاضبة لمغادرة شهر شعبان دون وداع يليق به، وتارة تدوي بصفير وزغاريد تهبط من قمم الجبال، وأزقة الديار، ابتهالاً بقدوم رمضان، ويبدوا في ملامحها الخجل من أفعال العباد، وكيف سيكون تعاملهم معه، ومع قداسته.
اقعد في زاويه السطح، حيث تقع أمامي الهاوية، أتراجع قليلاً إلى الوراء، ثم ابدأ بالطواف في المعمورة عليّ أنفس كربة، واُزيل هم، وابعث طمأنينة، واشرح قلب، وأسعد بائس، واحمي خائف، واحضن محبوبة قلبي. مررت بنظري على دياراً عدة، كل دار يضم في داخله قصة ونهدة وزفرة شوق وكتمة عتاب، وكل قصة تطوي في طياتها آلام ومعانة، وربما عذاب وشقاء، وربما حرمان وإنهاك، وكل دار تحوي أحلام متناثرة في الفناء، تشاهد روحها وهي مغادرة نحو العدم، وأماني مذبحوة بسيوف العادات، ومسجونة في زنازين التقاليد، ومقيدة بقيود العرف، ومعلقة على مشانق القبيلة، ومرمية في مقبرة الطائفية ينهش جسدها ذئاب بشريه، وكلاب إنسانية.
لكل دار حارس لقصصه ونهدته وزفرة شوقه، وكتمة عتابه، وملامة ايامه، وأنا حارس لقصص داري، ونهدتي المحملة بالفقد، وزفرة شوقي، لذلك سوف أحكي لكم عن تناهيد هذا الشاب، وهو مثال بسيط، ولكم أن تقارنوا بينه وبين بقية ديار المعمورة، وكيف تأكل الاماني أحشاء الساكنين، تجاهلت كل منازل القريه، وكأنهم مقابر باغيات يشمئز الإنسان ويسخط من سكان تلك المقابر لأعمالهم القذرة، لذلك كل منازل القرية كانت بالنسبة لي مقابر للبغاة، ماعدا منزل وأحد، من يحضن بداخلة فتاتي، كان مقابل نظري، ركزت عليه بأشعة النفاذ إلى ما وراء الجدران، وما وراء الطبيعه، اخترقت كل الحواجز حتى وصلت إلى حيث مرقدها الرحيم، شاهدتها متعبه يائسة بعد نهار ملئ بالنكد والعمل الدؤوب، وبعد أحلام استسلمت في نهاية المطاف لداعي الخلود الدنيوي - النوم - كانت تحتضن البطانية بين ذراعيها، البراءة تغمرها كطفلة تحضن دميتها الهدية من والدها. عليها شبه إبتسامة طفيفة، أنفها المدبب غارق في وسادتها اللينة، ساقيها تحتضن جزء من البطانية، وكأن تلك البطانية هي" أنا" بين صدرها الحنون، واذرعها المصقولة من سيقان أشجار الجنة، مضجعها الناعم يجمع بين الموت والحياة، الموت في سبيل جمالها والحسن، والحياة بين بساتين أيامها، وحدائقها المتصلة بنهر من السماء.
اقتلبت على ظهرها تاركة البطانية بجانبها تغازل جمالها، وتحملق النظر إلى نعومة بشرتها، يدها الأيمن على بطنها، ويدها اليسرى بجانبها، وكانهن حراس لهذا الكنز الثمين، شعرها متناثر بجانبها كحقول خضراء بجانب فلة جميلة، أو كظلام دامس يحيط بالقمر - وجهها - من كل الجهات، قامتها ذات أبعاد وتفاصيل تحير العلماء، وتدهش الفلاسفة، لا يعرفون هل هي بشر، ام ملاك من حملة العرش، نهديها سحابة زينت سماء جسدها الرحيم، هم كهضاب مرتفعة عن أرض مستوية، إذا صعدت إلى قممهن ترى مالا يخطر على القلوب، وتجد مالا تتوقعة النفوس، وتتوق إليه الأفئدة.
كانت تأتي هبة رياح باردة، أو اضطراب في الطبيعة تشتت تركيزي، أصوات غريبة تصدرها الطبيعة، واتساءلت حينذاك: أيها الليل! ماذا أصابك حتى حلت عليك لعنة الظلام، هل وقفت في صف إبليس حتى اخرجك الله من دائرة النور إلى الظلام؟ كيف سمحت لهذه العتمة أن تكون جزء من طقوسك؟ إنك لتشبه عجوز بائسة في أواخر عمرها، قد أطفأ الزمن مصابيح نورها الجميلة، واشعل في دواخلها مناجم العتمة والسواد، فاصحبت متكورة في زاوية ديوانها المنبوذ في أطراف القرية؟ لم اجد أجوبة ونظرت نظرة أخيرة نحو منزل فتاتي فوجدت أشعة النفاذ قد توارت خلف ستار التعب، فتساءلتُ مُناجياً مرة أخرى : متى سنجد مضجعاً يليق بمقامنا أيتها الفاتنة؟ تعالي يا حبيبتي! اقتربي مني، اقتربي أكثر، فالاقتراب يفرح السماء، ويبهج الملائكة، افتحي ذراعيك، اجعليني ارتسم في البوم روحك، اسمعي صوت القلب، في هذه الأثناء توقفت الرياح والسحاب والغمام، توقف كل شيء عندما سمعوا طبول القلب تقرع شوقاً إلى لقياكِ، أنا هنا وحيداً، وأنت هناك وحيدة، مضجعي موحش، تعالي لنغرس الأمان، ونجني زهور الود والحنان، تعالي لنفرش الأرض بِقُبل الأنبياء في الحب، والمرسلين في الود.
شعرت بشئ من الإرهاق والدعوة إلى السرير، واتجهت إلى الأسفل وقد ملأت جعبة الخيال بنهر من حسنها النقي، واشتعل في القلب حريق لا ينطفئ إلا بماء ثغرها السماوي الرحيم.
Post A Comment: