سيارة تقف أمام قاعة الحفلات وجمهور يصطف على طول البساط الأحمر؛ زغاريد وابتهالات  وأهازيج شعبية؛ يترجل السائق مسرعا يفتح باب السيارة الخلفي؛ يطل رجل طويل القامة بلباس رسمي وربطة عنق سوداء؛ يصفق الجمهور ويتصاعد الصياح فورا من كل جانب؛ يرفع يده للأعلى؛ لتحية الحاضرين؛ يمشي متبخترا فوق البساط الأحمر؛ عدسات الكاميرات تلتقط صورا له في كل خطوة يخطوها؛ حشد من الصحفيين ينتظر عند مدخل القاعة؛ وزمرة من مرافقيه تتبعه لا أحد يجرأ على أن يتقدم أمامه؛ في باب القاعة يقف يدير وجهه نحو الجمهور يحييهم بحرارة فائقة، صحفي ينسل نحو يمد في يده ميكروفون؛ يحاول المرافقين منعه من الوصول يشير لهم بالسماح له؛ يتقدم ووجهه مفعم بالبهجة وقد حقق نصر  السبق على زملاءه:

ـ شكرا سيدي، يقول الصحفي

ـ العفو، مرحبا، يجيب أحمد رجب

شعورك اليوم وأنت تحضر لحفل التكريم الخاص بكم وسط هذا الاستقبال البهيج؟ 

يبتسم برفق؛ ينظر للجمهور وهو يهتف باسمه؛ تعلوه سعادة غامرة؛ يتلعثم في الكلام؛ يخامره شعور جميل وكأنه في حلم سرمدي ... يكتفي ببعض الكلمات؛ يغادر وهو يردد حقا وكأنك في حلم... 

يشير بيده لأحد مرافقيه الذي منع الصحفي من متابعة الحوار يخبره أن لقاء صحفيا سيعقد بعد نهاية الحفل... 

يتجه نحو الداخل؛

داخل قاعة الاحتفال يقف الجميع، ينتظر لحظة وصول الضيف، تثاقلت خطوات أحمد رجب وهو يسير في اتجاه بوابة القاعة، صار مشيه وئيدا كأنه يحمل الجندل، عادت كل صور الماضي واقفة منتصبة أمامه، شخوص انتشلت من غياهب الماضي السحيق وأحداث اتقد فتيل شرارتها وغدت تثقل الذاكرة، في لحظة كل شيء عاد حيا في الذاكرة، أحداث تموج وشخوص تتحدث وأخرى تكتفي بنظرة صامتة، وجوه يلحفها الزمن وصوت في داخله يردد النهايات لم تكتمل بعد يا صديقي، الحلم كوميديا ساخرة ومسرحية لم تشاهد بعد الفصل الأخير... هيا للداخل! أسرع الجميع بانتظارك... الصوت يبتعد شيئا، ابتلعته الذاكرة ولم يعد يسمع طنينه في أذني أحمد رجب...

تقدم أحمد رجب وعبر الباب نحو الداخل، الجميع يقف ويصفق بحرارة فائقة، اعتراه خجل شديد وهو يتقدم للأمام، يبادل الحضور التحية بأحسن منها، الكاميرات تلتقط صوره وهو يمشي خجولا بين الحضور، فتاة جميلة تقدم لك الحليب وبجانبها تحمل صديقتها صحنا من الثمر الفاخر، تمتد يده لكاس الحليب يرتشف منه القليل، يبلل حلقه الذي جف، لم يتذوق طعمه ولم يشتم رائحته، كان الخجل يطبق على حركاته أمام تصفيقات الحاضرين وعدسات الكاميرات، التقطت يداه ثمرة من الصحن وهو يتمتم بلطف: شكرا لكم على حفاوة الاستقبال، أكل الثمرة وهو يبحث عن طعمها الحلو الذي فارقه، الحواس مخدرة بالخجل، لا يكاد يتذوق طعم الثمر ولا طراوة الحليب... أكمل المسير في اتجاه المنصة صحبة مرافقيه، كف الجميع عن التصفيق، صوت الموسيقى الهادئ ينطلق من الأبواق، يرافقها صوت انثوي ناعم يردد:

نرحب بالأستاذ أحمد رجب في هذا الحفل البهيج، وتتمم رجاء حين تنقطع الموسيقى أرجو منكم الوقوف احراما للأستاذ الكريم، تحية احترام له وتقدير منكم....

بعد برهة توقفت الموسيقى وعاد الجميع منتصبا يصفق بحرارة، وصوت المذيعة من الميكرفون يقول: 

اليوم نحتفي بأستاذنا الكريم السيد أحمد رجب بمناسبة نهاية مشوار دام أربعون سنة من التدريس من العطاء للأجيال التي تتلمذت على يديه...

فرحة عارمة وشعور مبهج يرافقه خجل شديد، رهبة الحدث والأشخاص جعلت مشاعر أحمد تختلط بين فرح وسرور تارة ومقاومة الخجل والتطلع للحرية تارة أخرى، ظل أحمد يجول بنظره في القاعة يفتحص الوجوه بعضها يبدو مألوفا والآخر يجهله، مشهد غير مألوف يعيشه أحمد الجميع يقف للحظة الوداع، سيل من التيه ينهمر على أحمد سؤال تلو الآخر، لا جواب لحيرته. نزل درج المنصة بحذر واتجه نحو طاولة خصصت له، زينت بالورود الحمراء، وعلى صدرها مختلف أشكال الحلويات كتب على بعضها تهانينا لك، تقاعد مريح، بداية حياة جميلة بعد نهاية الخدمة...

جلس على الكرسي، يتنفس الصعداء وكأنه قطع ألف ميل مشيا على الأقدام، رفع نظره نحو الوجوه، الجميع ينظر إليه، تدفق الخجل من شديد وأصيب بصداع شديد كاد يتحول إلى عصاب هيستيري، طأطأ رأسه وهو يحاور ذاته التي اسلمت حريتها للنهر الخجل المتدفق وزوابع نظرات الغير التي حولته لكائن فاقد لزمام ذاته وتملكها. ظل يبحث عن سبيل للعودة وسط الحضور، منفذ يعبر به نحو ذاته، صوت من الميكروفون يصدح للحضور: 

نبدأ حفلنا اليوم بآيات من الذكر الحكيم يتلوها القارئ عبد الحق لمهى...

تجمدت الأفواه والألسن وانحنت نظرات الحضور خاشعة، صمت رهيب يطبق على المكان، تحرر أحمد رجب من خجله، لمّ شتات ذاته من بين ركام الخجل وهو يستشرب صوت القارئ العذب وهو يتلو القرآن الكريم، كان لحظة صمت خاشعة ود لو لم تنقطع أبدا، تحرر من نظرات الغير التي تحيط به وعدسات الكاميرات التي تلاحق خطواته.

يلاحق ذاته في عفوته الايمانية يجهز نفسه لما بعدها ويحشد قوته في مواجهة نظرات الحاضرين داخل القاعة، أنهى القارئ تلاوة ما تيسر من الذكر الحكيم، تقدمت فتاة للمنصة تمشي بخيلاء، أخدت الميكروفون، طالت من صديق أحمد رجب إلقاء كلمة باسم زملاءه، أخد مكانه على المنصة وراح يتلو كلمات معلبة أعدت بعناية خاصة لهذه المناسبة.

ظل أحمد جاثيا في مكانه يتابع كل كلمة تقال في حقه، يلاحظ تفاعل الحاضرين مع الكلمات التي تحشد الهمة وترى وجوههم عبوسة حين يتحدث أحدهم عن لحظة حزن وألم عاشها رفقة أحمد رجب... زمرة من الأشخاص تتهافت على الميكروفون لتفريغ حمولة أعدتها لتلقيها على مسامع أحمد رجب والبعض يقدم له هدايا بينما يجلس أحمد على الهامش متابعا لما يجري حوله، اعتراه شعور بانمحاء ذاته وغدا وكأنه حيوان تجارب ألقي به داخل هذه القاعة المعدة بعناية بالغة... ظل أحمد رجب يتابع المشهد الهزلي، ينتظر المشهد الأخير من مسرحية هزلية عنوانها العبث، ما ان يستهلك أحدهم خطابه حتى يحل مكانه آخر يلقي حزمته العرضية من خطاب مبجل، انغمس أحمد في متاهة يرقب فصول العبث، يعيد شريط الماضي ومعاناة التي كان يكابدها وحيدا، القهر والمرض الذي نخر جسده، لم يزره يوما أحد باستثناء قلة، ولما شاع خبر تدهور حالته انقطع البعض خوف من منظره الجاحظ الذي أضحى عليه، واليوم يتابع كيف الجميع هيأ بدلته وقص شعره واغتسل جسده عطرا، يلقي عليه خطاب وداع وكأنه مقبل على اللحد بعد نهاية الحفل.

وقف أحمد رجب غاضبا وهم بالخروج، تبعه ملاحقه يستفسر حاله، طلب الميكروفون من مقدمة الحفل وهو يقول:

شكر لكم أيها الحضور، لا أريد تصفيقا ولا تبجيلا، لست دمية على مسرح العرائس، أرجوكم افسحوا لي الطريق لأغادر، أريد أن أشتم القليل من الأكسجين، أشعر باختناق شديد، أجدد شكري لكم ومتمنياتي لكم بسهرة ممتعة، المشهد الأخير من مسرح العبث تراجيدي مشوق.

غادر أحمد رجب القاعة ورفض أن يتبعه أحد، وقف عند باب القاعة يتطلع للسماء بعينيه، يرقب السحب تتحرك بحرية، الطيور ترفرف وتعبث بجناحيها تترنح في الأفق، استنشق الهواء وقد كان باردا، ارتعدت فرائسه، ودب قشعريرة في جسده، صار يتحسس جسده من جديد، عاد يمتلك روحه التي تستوطن هذا الجسد، نظر من حوله: أين الجمهور الذي كان هنا؟ غادر ربما. أين البساط الأحمر؟ م يعد له وجود. اعتراه شعور بأيادي تمتد نحوه لتعيده للداخل استجمع قواه وفر هاربا... صوت من بعيد يطارده توقف يبحث عن مصدر الصوت، إنه صوت المنبه يوقظه، الساعة السابعة صباحا، هو اليوم على موعد مع زيارة لجنة تحل من الوزارة ربما تحمل له تأشيرة دخول قاعة الاحتفال... 

    








Share To: