...
لا أقصد بعنواني مفهوم الالتزام بقضية ما.. وطنية، قومية أو حتى إنسانية من خلال كتابة أو رسم أو موسيقى ما تعبّر عن هذه القضية أو تلك... المشكلة أكبر من ذلك في هذا الزمن، الذي في عالمنا العربي عموماً وفي البيئات المهمّشة خصوصاً في كل البلدان...هي مشكلة الجهل، ليس فقط المرتبط بأمّية القراءة حرفياً... إنما المرتبط بأمّية الثقافة والانفتاح عموماً والتي أكبر فاعل فيها هي التعمية الدينية أولاً، والتي غالباً ما تخلق بيئة عاطفية متعلقة بالموروثات البائدة وغارقة في بحور من الظلام.. ولا أقصد هنا ضلالة الدين نفسه، وإنما ضلالة من يتزعم الناس دينياً وذلك إما لعلة في فهمه أو لمأرب في نفسه. وتنساق الجماهير وراء عاطفة تزيدها بعداً عما يجري حولها. وأكبر مثال على ذلك منع الفن عن الأطفال، الفن بكل أشكاله من موسيقى ورسم وسينما ومسرح... إلخ وإغراقه فقط بما هو ديني من ممنوعٍ ومسموح.
والبعد عن الفن هو تقوقع في حاضر أليم يجتر نفسه وحكاياته فيصبح الفرد عاجزاً عن رؤية الجمال وتذوقه، ومندفعاً الى تحصيل لقمة مادية كسيرة، وجنة يعوّض فيها بعد مماته ما فاته من ملذات الدنيا بسبب عجزه المادي وعجزه الروحي، فيتخدر عن المطالبة بحقوقه على الأرض... قد يقول قائل أننا في حالة أزمة.. وهناك أولويات أهم من الثقافة... نعم.. نحن في حال متأزم حضارياً واقتصادياً ولكن هذا لا يجعل الثقافة من الكماليات نستغني عنها أيام الجوع، لا بل حالنا هذه يؤكد عليها كأساس من الضروريات. الثقافة التي تعني أولا الخروج من دائرة الذات والهوية المغلقة الى دائرة الآخر والاطلاع على كل الفلسفات البشرية التي تتجسد ليس فقط بالدين ولكن بكل أشكال التواصل الاجتماعي والفني. الثقافة بهذا المعنى تكون أداة تقارب إنساني. أداة تحرر من كل المفاهيم المغلوطة الموروثة أو المفبركة حديثا بغاية استعبادٍ حديثٍ للفرد، وهي أداة محاربة التعصب القومي والديني والفئوي بكل أنماطه. وهي أيضا حركة مقاومة للسياسات التي أعطت للمخزون الطاقي للبشر بعداً اقتصاديا محضاً، قد نكون لحظناه مؤخراً مع الجائحة وتبعاتها... الجائحة التي فتحت شهية الحيتان للمال... شهية أكلت كل المعاني الإنسانية رغم مظاهر التعاضد المؤقت بين الدول بارسال شحنات طبية لا تغني ولا تسمن... لأن الحري بهم كان ألا يقعوا بالمحظور من تصنيع وتحوير لما قد يهلك البشرية، والدليل ما قد تنبأ به غيتس منذ سنوات عدة عن سوق وصراع اقتصادي قادم في مجال تصنيع اللقاح... وحصل ذلك أمام أعين رجال الدين على اختلاف توجهاتهم وفلسفاتهم، بل في لحظة ما حولوا موضوع قبول اللقاح وحتى عدم الحد من التجمعات الدينية الى قضية جربوا الله بها حتى تفشت الجائحة اكثر... وعادوا وانصاعوا الى العقل العلمي وكثير منهم تلقى اللقاح والفقراء لا زالوا يتخبطون في عجزهم وفقرهم ومصائبهم... إن البحث عن تربية عبر تطوير ذائقة الفرد ودفعه دون قيود الى اكتشاف الآخر وعلمه وثقافته ينمي فيه رؤية العقل.. هي مهِمّة تُرِكت على عاتق الأدباء والكتاب والفنانين، مهمة شبه مستحيلة لأنها مقيّدة بكل أشواك مجتمعات خائفة من استعمال عقلها...
 نحن نحيا انهيار العالم القديم يوما بعد يوم، حدث بعد آخر... وذلك حتى دون أن نعي هذا الحدث الضخم الذي نعيشه... ودون أن نكون مستعدين للدخول في العالم الجديد بمفهومه... ليس فقط ذلك، وإنما لا زالت الجماهير تعيش عصور حجرية وظلامية المفروض أنها بادت ...
 






Share To: