إصلاحات المحتل:

البناء الهرمي للسكان في زمن الاحتلال يقتضي خلق فئة منتفعة من وجوده لتكون سنده وعونه على الاستمرار في هذا البلد، يتقلدون أرفع المناصب ويكونون طوع بنانه ورهن إشارته فلا يتفوهون أو يفعلون إلا ما يملى عليهم، ران على قلوبهم وتوقفت عقولهم،

حتى وإن رحل بصفته بقى بيننا بقوانينه وفكره وطقوسه الحياتية من خلال هذه الإمعات التي تنتشر بيننا وما زالوا يسبحون بحمده، تربوا على عين المحتل جيلا بعد جيل مكسور داخلهم، مشوهين، أركسوا في كل أنواع الفتن ولن ينجوا منها أبدا ولا خير فيهم والاستعانة بهم مهما بلغوا من العلم، لا يزيدوا الأغلبية إلا خبالا وكل من نعته المحتل بجميل الصفات هو الأسوأ على الإطلاق ولو كان ظاهريا من العباد الزهاد.
البقرة الحلوب

انجلترا الدولة المحتلة لمصر تقوم بالمشروعات التي تجعل منها البقرة تنتج لبنا أكثر لتنتفع هي به دون غيره،

فأنشأت خزان أسوان لتحسين طرق الري بمصر وتصبح مصر مزرعة القطن الرئيسية لمصانع لنكشير، تشتريه منها بأبخس الأثمان وترده إليها منسوجات مصنعة بأغلى الأثمان،

فالمحتل يحيل الدولة المحتلة إلى سوق ممتد لشراء منتجات مصانعه فقط، ويحرص على ألا تقوم هذه الدولة بأية صناعات تذكر فيصبح متحكم فيها بصفة دائمة، مفتاح الصنبور في يده وهم من ابتدعوا القول:

“بأن مصر لا تصلح إلا أن تكون بلدا زراعيا ولا يمكن أن تقوم للصناعة فيها قائمة لافتقارها مقومات الصناعة”

وهذا الإفك كان يدرس بالمدارس بأمر المحتل ليرسخ هذا الاعتقاد في أذهان الأبناء منذ نعومة أظافرهم،
موارد الدولة المصرية لخدمة المحتل

وبالطبع تم توظيف موارد الدولة المصرية لخدمة المحتل وأعوانه من المصريين، ولسداد الديون المتراكمة بينما عموم المصريين يرتعون في الفقر وبؤس وكدر العيش..

حيث أصبحت أغلب أراضيهم مرهونة لدى بنوك التسليف والمرابين الأجانب الذين انتشروا في ريف مصر في حمى المحتل الإنجليزي والمحاكم المختلطة حتى أنه كان يقال أن تحت كل حجر في أرياف مصر مرابي أجنبي،

يأتي إليهم بائسا فقيرا يبيع في كشك صغير بعض الجبن والزيتون والبيرة والخمر، يزين للفلاح شرب الخمور ولعب القمار بالاستدانة منه بالربا الفاحش فلما يعجز الساذج على السداد يرهن له الأرض فلا يمر كثير من الوقت إلا وقد امتلك المرابي الأجنبي كل أراضي القرية بعد عجز الفلاحين على سداد ديونهم، بالإضافة إلى بنوك الرهن والتسليف،

فقد أصل المحتل شكلا اجتماعيا معينا للحياة في مصر فأصبح أصحاب الأراضي والأثرياء روادا لبيوت الدعارة والملاهي والبارات ينفقون كالسفهاء ويقعون في حبائل هذه البنوك الأجنبية حتى أصبحت ثلاثة أرباع الأراضي مملوكة للأجانب إما بالرهن نتيجة للعجز عن سداد الديون حتى أصبح الفلاحين أجراء وعبيد يعملون لمصلحة المرابين أو ببيع منتج ما تبقى لانجلترا بثمن بخس.

أما التجارة الخارجية والكثير من التجارة الداخلية تسيطر عليها شركات أجنبية زادت في عهد الانجليز وهي معفاة من الضرائب وتعود أرباحها الفاحشة للدول التابعة إليها وبالتالي فهي كالديون الأجنبية سواء بسواء.
اللورد الطاغية – اللورد كرومر:

السير أفلن بارنج أواللورد كرومر، حاكم انجليزي مستبد سكن قصر الدوبارة، عهدت بلاده إليه بحكم مصر لمدة ثلاثة وعشرين عاما، كان الحاكم بأمره في مصر كلها يوجه الأمور داخل مصر طبقا لمصلحة بلاده حتى في نهاية عهده كادت مصر أن تفقد شخصيتها،

وهو مهندس تحويل مصر إلى مستعمرة بريطانية، قصر الدوبارة كان مقصد الأثرياء والمنتفعين الذين لا ينظرون إلا تحت أقدامهم ومصالحهم الشخصية لاتباعهم مبدأ «أنا ومن بعدي الطوفان» حتى وإن أغرق هذا الطوفان عموم مصر فلا يهمهم طالما هم الناجون،

هؤلاء كانوا يتقربون زلفى للورد كرومر بدلا من الانضمام لصفوف المقاومين، هذه الطفيليات موجودة في كل زمان ومكان، الخطوة الواحدة منها تعيد الأغلبية مائة سنة للخلف.

اللورد كرومر ملكا غير متوج استغل هؤلاء ليستعين بهم على توطيد أقدامه في الدولة المصرية فكانوا طوع بنانه،
دولة رأسمالية فاسدة

والمحتل الذي يحيل نظام الدولة إلى دولة رأسمالية فاسدة تعاني الطبقية والهوة الواسعة بين هذه الطبقات واقعا وفكرا،

فهو من أفسد هذه التركيبة السكانية بوجود طبقة منتفعة ثرية ثراء فاحش وأغلبية فقيرة كثيرا ما تسعى للكفاف ولا تبلغه وطبقة غير قليلة معدمة من كل شيء مما يهدد سلامة المجتمع، من بروز الأحقاد والضغائن والوصوليون والانتهازيون الذين ينشرون ويؤكدون على تعميق الفساد في كل بوصة وما يستتبع ذلك من مشاكل أخرى فرعية هي ليست إلا نتيجة لأصول مهترئة معوجة فيصبح الحل معارضة أصل المرض وليست أعراضه كما هو حادث.

نشر كرومر المستشارين وكبار الموظفين الإنجليز في مختلف الوزارات والقطاعات والمؤسسات ليقبضوا على مفاصل الدولة المصرية ووصل الأمر إلى الوظائف الدنيا ولو أنهم أرادوا الاستيلاء على وظائف صغار الجند لفعلوا لولا الكبر والغطرسة التي يعانونها، وكانوا هم الحكام الفعليين للأقاليم بل ومهندسو الري الإنجليز كانوا يقبلون الهدايا والرشوة من الإقطاعيين وأصحاب رؤوس الأموال كي يوفروا لهم ما شاءوا من مياه الري لأراضيهم ويحرم صغار المزارعين منها.

المحتل يصدر أوامر وليست قوانين أو توصيات خرجت من لجنة تقصي حقائق أو ما شابه لذا لم يكن أحدا من المصريين أيا كان موقعه ليرفض أي إملاءات تحت أي ذريعة ولو أنهم فعلوا لاضطرت انجلترا إلى الرحيل عن مصر طالما قامت الجموع بالوقوف ضد مصالحها،

كما حدث في أعقاب ثورة 1919 عندما رفض جموع المصريين أو من يمثلونهم الجلوس والاستماع للجنة ملنر فعادت إلى بلادها وقد أوصت:

أن الحماية البريطانية على مصر علاقة غير مرضية ويجب البحث عن علاقة أخرى يرضى عنها المصريون.
شريف باشا يرفض إملاءات انجلترا

واحد فقط هو من رفض إملاءات انجلترا، محمد شريف باشا رئيس وزراء مصر في عهد إسماعيل الذي رفض إخلاء السودان لفصلها عن مصر وقال قولته الشهيرة:

 “إننا إذا تركنا السودان فإن السودان لا يتركنا”

ثم استقال أو أقيل لا فرق، المهم أنه استبعد لأنه رفض إملاءات المحتل بفصل السودان عن مصر ولم يحذو حذوه أحد،

وهكذا فإن النفيس دائما شحيح والرخيص دائما أكواما متراكمة، متتابعة،

ثم أتى المحتل في عقبه بنوبار باشا الأرمني الأجنبي عن مصر والسودان ليتولى الوزارة في مصر..

ويوافق على سحب الجيش المصري من السودان (لنعرف أصل الخيبات والنكبات المتتابعة)

وبعد أن نفذ السمسار نوبار للمحتل كل ما أمر به لفظوه وعينوا بعده رياض باشا الذي لم يمكث أكثر من ثلاث سنوات..

وجاء من بعده مصطفى فهمي باشا الذي كان مطية، ذليل للمحتل فقد نالوا في عهده ما لم ينالوه ولا حتى في عهد السمسار نوبار حتى قال عنه ملنر:

“إن اختيار اللورد كرومر قد وقع على مصطفى فهمي باشا، الوزير الذي كانت تنشده انجلترا”
المقاومة والحركات الوطنية

ومع عنفوان المقاومة والحركات الوطنية ضد الإنجليز خاصة مع الزعيم مصطفى كامل استقال مصطفى فهمي باشا (أبو رغال) من منصبه،

وهكذا حكم الطاغية كرومر مصر ثلاثة وعشرين عاما،

إذا عارضه أحد الموظفين بطريقة ما كان نصيبه الطرد والإقصاء، وإن لم يكن موظفا كان نصيبه السجن أو النفي والتشريد،

وهكذا كان الطائع المنافق هو من ينال بعض الفتات والحظوة وبعض الامتيازات المادية على حساب الدولة المصرية حتى وإن أثقلها بمشكلات تنوء بها مئات السنين.
بوق المحتل:

الصحافة والتي هي في الوضع الطبيعي ليست إلا بوق المعارضة ولسان حال جموع الشعب، تحولت إلى بوق المحتل الأكثر نفير، تعج بالنفاق الصريح والمنافقين دون خجل،

فالصحيفة التي كانت تصدر أي مقال ضد المحتل من طرف خفي أو معلن كانت تغلق ويسجن ويشرد العاملين بها،

حتى يئس الشعب المصري من هذا التطويق وإحكام قبضة المحتل وظنوا أن لا أمل وأن بقاء انجلترا خالدا أبد الدهر حتى بزوغ نجم مصطفى كامل ومحمد فريد.

وللحديث بقية إن شاء الله






Share To: