كثيرة هي الخصائص الفنية وروعة المتخيل التي جعلت أعمال نجيب تخلد في المسرح الروائي العربي، مهما تغيرت الأساليب وتطورت اللغة السردية، إذ لا يزال في رأيي المتواضع لم يكتشف بالقدر الكافي نقدا وتنقيبا في دهليز المعنى لهذا الكاتب العملاق، ولربما استمرت الكشوف عن الكنوز التي تنطوي عليها أعماله كما لا تزال تكتشف أسرار مصر القديمة وهي تبوح بعبقرية الانسان في الزمان والمكان معا، ولا غرو أن تحمل أعمال هذا الروائي العالمي المصري حفيد عباقرة وصناع الحضارة الأولى ذات العمق في القراءة والتدبر.

شخصيا ما يلفت انتباهي أكثر في أعمال هذا العبقري، هو قدرته العجيبة في رسم شخوص أعماله بتلاوين اللغة وتركهم يعبرون بتلقائة عن مضمون المتن دونما توجيه قسري صارم نانتج أو خادم لنزعة أيديولوجية أو فكرية ما، وهذا ما يطغى كثيرا على أعمال الروائيين العرب من المهوسين بنيل الاعتراف الغربي والركض خلف جوائزه، وأبدع ما رسمه نجيب محفوظ ملحمته الروائية المرأة المصرية والعربية في أصدق واقعها بعيدا عن توظيف جراحها وآلامها في مجتمع ذكوري للغرض الذي ذكرنا آنفا.

في زقاق المدق التي أراها مرجعا حكائيا للحارة العربية التي لم يصل ولا أظن أن يصل أحدهم إلى مستوى تصوير مثل جمالها الحكائي، يرسم نجيب محفوظ جمال المرأة المصرية بإقتدار لا يمكن مجاراته، إذ يتحول الجمال إلى عنصر سؤال في الوقع المؤلم للمرأة، فحميدة التي جسدت التراجيدية الأنثوية في سياق النص، تتجلى ملامحها وتتفجر الأنوثة من صورتها بعيدا عن معايير الجمال الغرائزي الذي يُتغنى به ويسوق على مذبحه معاناة المرأة.

نجيب محفوظ يعطينا من صورة حميدة، معنى آخر لتلكم المعناة، خارج الحق المؤدلج والمنمط في السرد العربي الضاج دوما بإشكالات المختل المجتمعي داخل ثنائيات الأصالة والعاصرة، الذكورة والأنوثة، الدين والدنيا، فحميدة في زقاق المدق تتفجر أنوثة ورغبة في الحياة كأي فتاة نشأت في ظلمة المكان، وليس بوعي علوي أو علمي مسبق، شكل فتيات البيوت الشعبية ممن حُرمن من الدراسة ويتطلعن لأفق المجتمع بأرواحهن الفطرية وأجسادهن المراهقة الخاضعة لسلم قيم الحارة، الحب لا يحتاج وعيا ولا تعليما حتى نرسم به مشكلات المجتمع العاطفية سواء كان في صورة الرجل أو المرأة.

وفي السكرية يبدع نجيب محفوظ في نحت جدارية خالدة عن المكان تبدو فيها الشخوص متحركة وفق خيال المتلقي قبل مقصد الكاتب نفسه، وفي مشهد زبيدة وهي تلجأ إلى سيد عبد الجواد لطلب سُلفة منه، يكاد القارئ يستقل عن إطار النص وهو يرى المشهد يتحرك في مخيلته من خلال ثقل وثراء لغة نجيب محفوظ في رسم زبيدة بين زمنين زمن “الذاكرة” الاغراء والفتوة وزمن الواقع الانحطاط والعوز والحاجة، صورة زبيدة التي اختزلها في ذينك العالمين، لا يكاد الواقع الشعبي العربي يخلو من أمثالها، وعليه فالمرأة في أعمال نجيب محفوظ تتخطى الخصوصية المصرية لتغدو عربية، وبالتالي تقفز الحارة بوصفها تعبيرا محوريا عن المرأة من إطارها المكاني المصري الضيق إلى فسيح المكان العربي، في كل أحيائه وتجمعاته الشعبية.

هذا القفز عن الخاص في صورة المرأة الحارة أو الحارة الأنثى هو ما يجعل من نجيب محفوظ أبرز من كتب عن المرأة في الأدب، عكس ما ناحت به أقلام الأنوثة اللاهبة، التي وظفت الأنثى في سوق الحكي، بل وكان أصدق تعبيرا عن المرأة مما طرحته المرأة نفسها بوعيها التاريخي لقضيتها، في سياق ما سمي لاحقا بـ”الأدب النسوي” لكون نجيب خلق نموذح المرأة من عجينة المكان، فنفخ في صورتها من روح الفيلسوف الذي تشرب من معاني الحارة ولم يهجرها لا في واقعه ولا في متخيله.

والخلاصة هي أن حكينا العربي، وشاكلة توظيفه لعنصر المرأة، يبدو من خلال تميز نجيب محفوظ معتصرا، ومختصرا، في ضيق معتركات الايديولوجيا والآفاق التي تنصرم عن واقع الوعي، وطبيعة لعناصر المشكلة لجوهر الواقع، فليس جمال “الكليب” الغنائي الذي من دون حضوره اليوم لا يُعبر عن الحب وشهو الحياة، هو ما يشكل حركة الأنوثة في روائع الرسم الحكائي عن نجيب محفوظ، بل جدلية خصوصية المكان وتفاعله مع دخيلة المرأة وحلم الفتاة هو أهم لون في هذا الرسم البهي الصادق الذي يسحر المتلقي، فلم يكن ضروريا أن تكون حميدة شقراء، متعلمة متعرية كي تعبر عن الحق الانثوي الضائع، ولم يكن ضروريا أن يخضع حاضر زبيدة المنحط في جمالها وعوزها ماضيها المفعم بروح المغامرة، وهذا هو سر نجاح السرد لدى نجيب محفوظ، الذي جعله يتأسس كمدرسة خاصة وصفها بالبعض بالقدرة على الحياد السري للمؤلف وهو الحياد الذي لا نكاد نلفي له مثيلا في تراثنا الروائي.








Share To: