عدت إلى المنزل متهالك القوى،  مثقل بالانكسارات،  شارد الفكر،  ضائع في بحر من المشاكل التي لا حل لها،  في حاجة ماسة إلى نوم هنيء يسرقني من قتامة تفاصيل هذا اليوم.  
 كل شيء بغرفتي مبعثر يثير الاشمئزاز في نفسية الإنسان السليم ،  سريري مزال على حاله دون ترتيب،  كل أغراضي مثناترة في زوايا الغرفة،  ملابسي،  كتبي التاريخية،  ومجسمي الصغير للكرة الأرضية،  أشعاري الإنجليزية المدونة على الجرائد المقروءة سالفا،  وحتى ساعتي الرمادية التي أتلهف إلى ارتدائها في الأوقات الجميلة.  
 كلها أشياء كانت تزيد من شدة ورطتي في دوامة الحزن،   كل ما مررت به خلال النهار يتزاحم داخل مخيلتي بسرعة جنونية سوداوية لا تقبل فجوة لانقشاع النور.  
 ارتميت على سريري من شدة التعب دون  إحساس بالأمر من الإدارة العليا للعقل ، أفكر في جل العُقد والمشاكل العصية على الحل،  متجاوزا جدران غرفتي إلى أماكن متعددة ،  دون القدرة على التوصل للحل .  
 تلاشت قواي العقلية من شدة التفكير،  فغفوت للنوم طوعا،  محاولا نسيان دواليب كل القضايا إلى الغد،  كانت الأشواق تشدني بصورة غير معهودة إلى أبي وأنا أحاول النوم. . .   كأني في حاجة لتلك القوة الأبوية التي تخفض حرارة الأشياء وتجعلها في متناول الطفل بمنتهى السهولة والكلمات تتسارع إلى مخيلتي كأني في حاجة للحوار معه. . .   
 بدأت الكلمات تتناسل من أعماقي كأني أحادثه ، دون تحريك شفتاي .
 أبي،  أبي. . .   أصابني التيه وسط بحر من المعاناة بدون بوصلة ضللت الطريق،  الروح اشتاقت إليك بعد طول الغياب والأمل أضحى فقيرا في حاجة إلى شحن،  والمعاناة تتأجج بغيابك تمنع شمس الفرح أن تشرق.  
 كنت الوقود الذي يساعد سفينتي على المضي،  والرمق الذي يغذي روحي للعيش،  والمعطف الذي يلتف داخله جسمي للدفئ.  
 تراءت لي أطيافه في الحلم داخلا لغرفتي ،  كان حاضرا بكل عنفوانه الجسدي،  على حاله كأخر مرة لمقته عيني بحضوره الصامد والقوي.  متوسط القامة،  شائب الشعر،  أسود العينين،  يبتسم ويخطو تجاهي بخطوات ثقيلة تعزف على أوتار أشواقي بقميصه الوردي وحدائه المتهالك.  
 ضمني إلى صدره دون مقدمات والدموع تغتاب ملامحي دون توقف.  
 كان يتحسس كل جسمي بيديه بطريقة فضيعة ثاقبة الإحساس،  شعري،  جبيني،  ذقني كأنه يتحقق من سلامتي و وجودي على قيد الحياة.  
 كنت أحدته وأنا ضائع فوق صدره بصوت طفولي.  
 أبي،  أبي.  . .  أعذرني،  أعذرني إذا لم تباغتني أطيافك أحيانا،  أعذرني إذا نسيت أو تناسيت أن أدعو لك في صلاتي أحيانا،  أعذرني إذا اتسعت المدة على عدم زيارتك ،  إنك معي دائما ،  وأرى حضورك في كل جسمي في عيوني في شعري وفي جل ملامحي و حتى في اسمي .  
 أزاحني عن صدره بصعوبة دون أن يكثرت لِما أقول والفرح يزين محياه بطريقة جنونية.  . .  وعيناه مشدودتين إلى بياض الوزرة على الجدار.  . .  
 ظل يبتسم وهو يرتب كلماته ليرجع ويعانقني بحرارة والكلمات تتناثر من بين شفتيه:  في المكان المناسب يا بني،  في المكان المناسب يا بني.  
 انقشع نور داخلي وعمت  الفرحة والبهجة  ،  ليتبدد حضوره في الغرفة وأنا استجمع قواي فوق سريري  و الكلمات تتسابق من بين شفتي :  إلى روحك السلام و الرحمة ،  إلى روحك السلام 
و الرحمة.






Share To: