- ازيك يا جدَّة.. أنتِ تايهة ولا حاجة؟!
- تحبِّي أساعدك؟
كانت مسنَّة متعبة، مشعثة مغبرة، وكأنَّها مرَّت عليها السنوات في ظمأ وجوع، تتخبَّط أقدامها، وارتجفت بشدة عندما رأت نافع، اختفت من أمام ناظريه دون أن تتحدث بكلمة واحدة. 
حكى نافع لوالدته ما حدث، فهو حديث عهد بالتَّجوُّل في القرية، ولديه فضولٌ لكل الأشخاص وكلِّ الأماكن، حتى لم تُخْفَ عليه تلك العجوز الغامضة. 
انتفضت والدته: انت ازاي تطلع برّا من غير ما تقول لي.. وكمان تروح عند الوادي؟ إحنا مش حذّرناك أنا وأبوك مليون مرة ممنوع الخروج إلَّا حوالين الدار بس؟!
-أنا آسف يا أمي! بس كنت بدور على بدر صاحبي نلعب كورة ومكنتش لاقيه. 
-ولا بدر ولا قمر.. من هنا ورايح مفيش خروج إلا بإذني ومعايا. 
تعجَّب "نافع" كثيرًا من حدة والدته؛ فهذه المرة الأولى التي توبِّخه فيها هكذا، لقد بلغ اثني عشر عامًا الشهر الماضي، وهذه المرة الأولى التي تتحدث إليه هكذا، وفي داخله شيء يخبره بأن هناك سرًّا لم يعرفه، ويود معرفته بشدة، وسيعرفه قريبًا. 
كانت تجلس "هنيَّة" بجانب باب الدار، تلملم ما بقي من وراء الماشية التي تُربِّيها هي وزوجها "حمدان" وتفكر فيما حدث، وكيف ستخبر "حمدان" بما فعل ولده الوحيد والذي يخشى فقدانه، اقترب منها حمدان وهي شاردة، انتبهت على صوته: مالك يا أُمَّ نافع؟ عمّال أبُص لِك وأنادي عليكِ وأنتِ ولا أنتِ هنا؟
- مااا.. مفيش يا أبو نافع.. معلش يا أخويا مُش آخدة بالي. 
- في إيه.. الواد كويس؟
- كويس.. كويس متقلقش بس.. 
- بس إيه انطقي.. قلقتيني!
- مُش هينفع هنا، لازم نتكلم في أوضتنا. 
كان "نافع" ينتظر والده بفارغ الصبر؛ حتى يتسنى له سؤاله عن وادي الظلام وما حدث هناك. ولماذا يخاف الجميع وخصوصًا عائلة حمدان، وبمجرد سماعه لصوت والده خرج ليتحدث معه، ولكنه قد دخل الغرفة مع "هنيَّة".. كاد يرجع لغرفته لولا أن سمع صراخ حمدان لهنيّة وتهديدها بالطلاق إذا تكرر هذا الأمر مرة أخرى، هرب سريعًا لغرفته؛ خشية أن يراه أحد والديه فيسلِّطا غضبهما عليه. 
-أنتِ غلطتِ وأنا المرة الجاية معنديش سماح.. حافظي على ابنك أحسن لِكْ بدل ما يضيع زي اللي ضاعوا ولو حصل اللي حصل ده تاني أنتِ حرة ومتلوميش إلا نفسك. 
ظلت "هنيّة" تبكي: أنا خايفة عليه أكتر منك.. بس ده ولد وهيبقى راجل ومُش هنفضل حابسينه، بس لازم نتكلّم معاه ونفهِّمه. 
زاد "حمدان" في غضبه، وكاد يكسِّر المرآة بيده، ولكنه تراجع واستعاذ من الشَّيطان:
- يا بنت الناس.. متطلّعيش الشيطان اللي جوّايا ولمّي ابنك في حضنك.. والمرَّة دي شاف واحدة عجوزة.. ياعالم إيه اللي هيحصل بعد كده؟
سكتت "هنيَّة" وتوقفت عن البكاء، وفجأة سألته: أنا مش هسكت المرة دي.. أنا عايزة أعرف الحقيقة وإيه اللي حصل في الوادي ومين دي؟
أنتِ اتجننتي! أنا مُش مِية مرّة قايل لِك متتكلميش في الموضوع ده؟ واحفظي لسانك؟
ما أنا لازم أفهم عيالي التلاتة اللي قبل نافع راحوا واحد ورا التاني وكلّه بسبب الوادي.. وامّا أهل البلد سألوا مكنش عندك رد.. هي دي لعنة صيباك ولا إيه يا حمدان؟ فهّمّنى أنت مخبّي عنّي إيه؟
- ياولية اسكتي وعدِّي الليلة دي على خير بدل ما آخد الواد واطفش. 
- ما أنت حاولت تطفش كتير وكأن في حد بيرجعك لِهِنا.. وفي سدّ بينك وبين بوابة القرية؟ 
- أنا هسيبك لحد ما تِهدي وتركزي كدة ولينا كلام تاني بعدين. 
كان "حمدان" غاضبًا بشدَّة وساخطًا لِمَا يحدث له ولأولاده، ويخشى على "نافع"، ويريد أن يفديه بروحه، ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ ويتساءل كل ليلة: لماذا هو؟ لماذا يختفي أبناؤه كلما كبروا وكلما بدأوا باللعب وتوجُّهوا للوادي؟ ماذا وراء تلك الأشجار العملاقة قاتمة اللون؟ ماذا سيحدث لو ذهبتُ إلى هناك؟
نام وهو جالس على مصطبة الدار، ولكن تكرر ذلك الكابوس كالعادة وهو يدخل وادي الظلام، وتحاول الأشجار أن تقتله وتخنقه بفروعها، يحاول الهرب ويفشل، يسقط في إحدى الحفر الكبيرة ويصحو وهو يصرخ، ولكن يؤذن الفجر ليهدِّئ من روعه، ويوقظه صوت مُؤذِّن القرية الشيخ: "عبد المطلب"، يذهب للوضوء، ومن ثَمَّ للصلاة في ذلك المسجد. 
بعد انتهاء الشَّيخ من الصلاة يلاحظ توتُرَ "حمدان" وعلامات عدم الراحة على وجهه.. . 
- مالك يا حمدان بس؟ إيه مزعّلك؟ ما تتوكل على الله في كل أمورك وهي تتحل. 
-غصب عنِّي يا شيخنا.. أنا حاسس إني بغرق أو تايه ومش لاقي بر.. كل يوم كابوس من سنين مش بيسيبني ولا فاهم إشمعنى أنا وليه بيحصل معايا كدة؟
- (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا) يا حمدان المؤمن مُبتلى.. قرّب من ربنا واحكي له.. واشكي له وهو قادر يحلّها.. واقرأ قرآن قبل ما تنام.. وإن شاء الله متشوفش كوابيس تاني. 
- يا رب ياشيخنا.. أتمنى.. ادعيلي أرجوك. 
توجّه حمدان عقب حديثه مع الشيخ إلى الدار وسمع لنصيحته، وبدأ يقرأ مما يحفظ من القرآن حتى خلد إلى النوم، ولكن الكابوس هذه المرة كان مختلفًا، كان أشدَّ ألمًا وأشدَّ رعبًا، استيقظ حينما شعر بيدٍ تتحسَّسُه وتوقظه، ظنَّ أنَّها "هنيَّة"، ولكنه صُعِقَ ممَّا رأى، وكاد يُصاب بأزمة قلبيَّة. 
تتقطع أنفاسه وكأنه يُحتضر، أيقظته "هنيَّة" في خوف:
- مالك يا حمدان! في إيه! إهدى ده كابوس؟! 
-أهدى! أهدى ازّاي؟ أنتِ صحّتيني من شوية بس مكنش شكلك كدة.. كنتِ متغطية بالسّواد وصوتك بشع مكتوم.. أنتِ بتعملي كدة عشان زعقت لِك؟
- إيه اللي أنت بتقوله ده يا أبو نافع؟ خد اشرب مايّة وصلّ على النبي. 
- ده كابوس، أنا لسّة مصحّيّاك اهوّة حالًا.. أما لقيتك بتصرخ وتقول الحقوني. 
- أنا.. أنا تعبت من الكوابيس، يا رب الراحة من عندك! 
- استعذ بالله كدة، وقول الأذكار ونام على جنبك اليمين.. وإن شاء الله تنام كويس وتقوم أحسن. 
كانت "هنيَّة" مُصمِّمة أكثر من كل مرة أن تعرف الحقيقة وتكشف الغطاء عن سرِّ الـ (10) سنوات الفائتة بعدما رأت نوبة الهلع التي أصابت حمدان لأول مرة، وخصوصًا بعدما حكَت له ما حدث مع "نافع" في الوادي، لا بد أن تعرف، وإلا ستموت حسرةً ممَّا يحدث حولها. 
كانت السَّاعة قد بلغت الثامنة، فأعدَّت الفطور لزوجها وولدها وأيقظتهما حتى يذهبا معًا إلى السُّوق وشراء احتياجات المنزل هذا الأسبوع؛ فاليوم الخميس، ويتجمع الكل في سوق القرية. 
فطرا وتوجَّه "حمدان" وولده للسوق، ولكن ما زال "حمدان" يشعر بالسُّوء من ليلة أمس، ويريد أن يفسر ما يحدث له؛ فالأمر يزداد سوءًا كل يوم، وخوفه على "نافع" ولده الوحيد يكاد يمزقه كلَّ دقيقة، وبمجرد دخول "حمدان" السوق عادت التحذيرات كلها على مسامع "نافع" كالعادة: ما تتحرّكش من جنبي وتفضل في المكان اللي أنا فيه وما تتكلمش مع حد. 
- حاضر.. والله يابا مُش هتحرك. 
لم ينهِ "حمدان" شراء باقي الأغراض ويحمل هو معظمها ونافع يحمل الآخر، ولكنه توقف فجأةً حينما لمح طيفًا أسودَ، ولكنه يعرفه جيدًا، هذا هو الذي يراه في كوابيسه، هذا هو الذي ينغِّصُ عليه حياته. 
أفلَتَ الطَّلبات من يده دون وعيٍ منه، وترك "نافعًا" في ذهول، وظلَّ يجري خلف ذلك الطيف إلى أن اقترب من الوادي؛ وادي الظلام، فتلاشى الطيف وتوقف "حمدان"، لن يستطيع الدخول، ويريد أن يعرف ماذا يحدث هنا! ومن هذا؟!
تجرَّأ للحظة وكاد يدخل، ولكن كاد يصيبه الصمم من الصراخ الذي سمعه فجأةً بمجرد دخوله خطوات في الوادي، كلمات تتكرر لا يحسن فهمها، ولكنه سمعها قبل ذلك في كوابيسه. 
ظلَّ يبتعد عن الوادي، ولكنه سمع بعض الكلمات، ولا بد أن يفهم معناها: "داين تُدان ولو بعد حين.. ولا زم تسدّ الدين اللي عليك". 
-أنا معملتش حاجة.. دين إيه اللي عليا؟!
استفاق من خوفه وهلعه حينما تذكَّر ولده "نافعًا" الذي تركه في السوق وفرَّ نحو الوادي، أسرع يجري نحو السوق، وجد الكل قد لملم ما تبقى من فرشه اليوم ولا أثر لنافع، أسرع نحو البيت على أمل أن يكون قد ذهب حينما تأخَّر هو وبعد أن أسقط كل ما اشتراه. 
"هنيّة" تنتظره في قلق؛ فقلبها ينغز وبشدة، وجدت حمدان يقترب مسرعًا نحو المنزل فانتفضت من مكانها:
- في إيه يا حمدان.. إيه اللي جرى؟!
- الواد وصل؟ هو فين؟
- واد مين؟ نافع؟ أنت بتسألني أنا؟ هو الواد مُش كان معاك؟!
- معرفش! أنا سيبته ورجعت ملقتهوش.. ومُش عارف راح فين!
- ابني.. ابني راح فين؟ ضيّعته يا حمدان! ضيّعته زي ما إخواته ضاعوا؟
ظلت تعول وتبكي إلى أن فقدت وعيها، طلب لها طبيبة الوحدة سريعًا، أخبرته أنها في حالة إعياء شديد، وستعطيها إبرة تجعلها أفضل، حتى يتسنى لها زيارتها في الوحدة لعمل الفحوصات اللازمة. 
- حد يلحقني ويقول لي أعمل إيه يا أهل البلد.. اللي شاف ابني يقول لي.. أنا بدوّر عليه من الصبح مُش لاقيه. 
هذا وقد كان يمسك بمايكرفون المسجد ويهتف حتى تسمعه معظم القرية، البعض يتهامس، والبعض يتعجَّب، والبعض يدعو له. 
سمع أحدهم خارج المسجد يقول لصاحبه: مسكين.. من يوم اختفاء ولده السَّنة الفائتة ودخول زوجته مشفى المجانين وهو يأتي للمسجد كل يوم وكأن ولده اختفى للتَّو، ولم يشعر بمرور الوقت! لا بد أن يأخذه أحد بجانب زوجته؛ فهذا الأفضل له. 
كان قد تسمَّر مكانه ممَّا سمع، ومن ثَمَّ هاجم هذا الرجل وكاد يقتله لولا تجمُّع أهل القرية والتدخُّل لمنعه، ولقد اصطحبه الشيخ: "عبد المطلب" لداره حتى يهدِّئ من روعه. 
- إهدى يا حمدان ومتعملش كدة في نفسك. 
- هو أنا لو موِّت نفسي في الحالة دي أبقى كافر يا شيخ؟
- اتقِ الله متقولش كدة.. الأعمار بيد الله وكلنا مُبتلين.. ومُش الحل إننا ننهي عمرنا بإيدينا. 
تركه الشيخ حتى يرتاح، ولكنه ظل يسمع تكرار ذاك الصوت
"اتقِ الله أنا معملتش حاجة.. اتقِ الله في ابنك.. أنا عمرى ما خُنتك". 
ولكنه وقتها لم يكن يسمع صوت "منال" زوجته الأولى، ووحيدة والدتها التي علمت بضرب "حمدان" لابنتها وإجهاضها، وظلت تنزف حتى الموت ولم يساعدها؛ فجن جنونها، وقررت بأخذ الثأر لابنتها وبقتل "حمدان" ببطيء، فكلما أنجب طفلًا تأخذه لوادي الظلام حيثما تقطن وتخبِّئ أولاده الأربعة لها، تُربِّيهم وتحميهم من والدهم القاتل... 
***






Share To: