تكلم السجان:ايها الرجل الغريب لم اكن اعلم قبل هذه اللحظة ان الله قد قال كلاما فكل ما اعلمه ان زوجتك نهى ماتت منذ سنة ودفنت في واد في البرية حيث الوحوش والكواسر وقد تركت لك ورقة صغيرة سأسلمها اليك الان،امسك عمار بالورقة وسقط على الارض مسبحا مرددا لعبارة انا لله وانا اليه راجعون،فصلى على زوجته بعد ان توضأ ثم فتح الورقة فوجد فيها كلمات ليست كالكلمات،كلمات قد كتبتها نفس شريفة عبث بها الزمان لانها سابقة لعصرها،قالت نهى:لا تبكي يا عمار واعلم ان الله هو الوحيد الحي الذي لا يموت وان كل نفس ذائقة الموت، فلا بد لليل ان ينجلي مادام الصبح وفيا لوقته ولا بد للبغال ان تنقرض مادامت تولد من غير جنسها ولا بد للبلاد ان ترى النور مادام فيها رجل مستهتر متهكم عنيف.
اعرف انني سوف ادفن في الخلاء حيث الوحوش والسباع دون ان يصلى في جنازتي،ولكنني اعلم كذلك ان اجل نعمة ينعم بها الله بها الله على عباده هو ان لايصلي عليه من لايحسنون الوضوء ويسنون شرائع خبيثة تخدم مصالحهم وتعبر عن مقدار الخبث الكامن في نفوسهم.
اوصيك ياعمار بأن تعلم نرجس وسامي اسمى المعارف وتجعلهما ثمرتين صالحتين عساهما يعيدا شيئا من الاعتبار لهذه الامة التي توحشت وانتشر فيها الفسادودهس فيها الحق.
احفظ وصيتي ياعمار وكن قويا ولا تستسلم حتى يظهر الحق ويعم التراحم ويتمسك الجميع بالعروة الوثقى،فقد قال تعالى(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) وقال:(ان هذا صراطي مستقيما فأتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)
ان الانسان الذي يسلط عليه الناس اشد كرههم هو الذي ياتي بشيء جديد لم يألفوه،انهم لا يكرهون احدا كرههم للمبدع لانه في نظرهم المجرم الهدام لتحطيمه كل قديم،ذلك لان اهل الصلاح عاجزون عن الابداع وما هم الا نهاية التشويش والقلق والاضتراب وبداية الاطمئنان او اليأس.
اخذ عمار يبكي ويرتعش كالطفل الذي وجد نفسه فجأة في صحراء قاحلة لا ماء ولا خبز فيها ولا ام ترضعه من صدرها الحنون،لقد ماتت هذه الام والاخت والزوجة والحبيبة،ماتت نهى التي كانت نور لا تقدر الظلمة على تبديده.
بقي عمار منطرحا على الارض سابحا في عرقه ثم قال لمن حوله من السجناء:الان قد اعلنت لكم كل شيء ايها التعساء،فها انا ذا اعود الى عزلتي وما اخفيت عنكم شيئا،سأرحل عنكم بعد ان علمتكم ان تعرفوا من هو اشد الناس ماساة وتكتما ومن يريد ان يكون كتوما،وما نطق عمار بهذا حتى ارهقه سلطان حزنه لاضتراره الى الرحيل والابتعاد عن زوجته وابنائه،فبكى منتحبا وما تمكن احد من تعزيته...
"ضجيج العميان"
ص:93-94
ط:1 اوت2018
Post A Comment: