إن مشروع نيتشه الفلسفي هو تحطيم الأصنام، التي عاش فيها الإنسان ردحا من الزمن ،باعتبارها حقائق مقدسة ، والدفاع عن قيم الإنسان بإعتبارها مجموعة من الحوافز والتناقضات النابضة بالحياة
فالإنحطاط مظهر من مظاهر العدمية ويتجلى في انكار الحياة هنا فوق الأرض والتشبت بحياة أخرى مفارقة للهنا ،فأول منحط في تاريخ الفكر الفلسفي ،هو سقراط أبو الفلسفة في التاريخ ،العاشق الأول ،والباحث عن الحقيقة ،ولو على حساب الحياة نفسها .فالحقيقة لم تتجلى له بل تكتشف، وفي اكتشافها رفض وإقصاء للأخطاء والأوهام والأراء الخاطئة ،وبالتالي فموقف سقراط سلبي ارتكاسي بلغة نيتشه، فالحقيقة التي يبحث عنها سقراط لا تستطيع فرض نفسها إلا من خلال دحض أراء أخرى. فالفلسفة والعلم من هذا المنظور لا يمكنهما ممارسة عملهما الا بوضع عالم المعقول في مواجهة عالم المحسوس ،بطريقة تحط من شأن التاني لصالح الأول ،فسقراط وضع الغرائز والعقل في طرفي نقيض وانحيازة الى العقل وتمجيده له ،هو احتقار للواقع الفعلي وكراهيته للجمال والجسد ،ونتيجة من نتائج الضجر من الحياة، ألم يقل سقراط لحظة احتضاره ؟ ما الحياة سوى مرض عضال .هكدذا عبد الطريق أمام تلميذه الوفي ووريث عرشه الوحيد ،أفلاطون ،هذا الأخير الذي حمل سيفا ودرعا وامتطى حصان المثال ،وأعلن الحرب على الجسد باسم المثال الذي يمتطيه رغما عنه ،رافعا شعارا فضفاضا " الفلسفة تدرب على الموت" فايلسوف الحق ومنطق هذا الشعار ،هو من تخلص من قيود الرغبة ،وتحرر من سلاسل الجسد ،هذا الأخير بدءا من أفلاطون فصاعدا، أصبح وصمة عار تحول دون سمو النفس ،وعائق ،أو حجرة عثرة أمام بلوغ الحقيقة ،فلا طريق إذن لسمو النفس وبلوغها الحقائق الا بإعلان الحرب على هذا الجسد وإماتته.
هكذا ظل الجسد ذاك الغريب ،الجالب للمتاعب ،هذه الفكرة إنتقلت إلى الفلسفة المسيحية بعد زواجها القصري من مثالية أفلاطون ،لتتوج أخيرا في مثون الفلاسفة المحدثون مع ديكارت ومن حدا حدوه، من المنحطين الذين منحو أسبقية العقل على الجسد .
فنيتشه لا يدعونا إلى تحرير الجسد بكل غرائزه ،ليبلغ أقصى درجات اللذة والمتعة ،كما اعتقد الفوضويين ،فذلك انحلال وهذا الأخير وجه ومظهر أخر من مظاهر العدمية والتي هي في العمق إنكار للحياة وادانتها . يقول نيتشه في كتابه (هكذا تكلم زرادشت) " ليتكم كنتم حيوانات كاملة الحيوانية ،ولكن الحيوان من شيمه الطهارة .إني لا أنصحكم بقتل حواسكم ،بل بطهارتها .أنصحكم بالعفة ،فهي فضيلة لدى البعض، ولدى الكثيرين تكاد تكون رذيلة ." ص.52. فالإنغماس في اللذة ،يضر أكثر مما ينفع ،ويضعف الحياة أكثر مما يقويها ويثريها ويبقى الإنسان أسير الحياة البهيمية . إذن يجب حسب فيلسوفنا الأنيق نيتشه ،عدم استبعاد ،أي شيء وفي الصراع بين العقل والعواطف ،ينبهنا نيتشه في أكثر من سياق إلى عدم تفضيل احداهما على الأخرى ،لأن في ذلك خطر الإنزلاق الى هاوية الحماقة. يقول نيتشه في كتابه ( أفول الأصنام) " لكل النزوات زمن فيه مضرة ،تجذب فيه ضحيتها الى الأسفل بكل ثقل البلاهة ،وزمن آخر متأخر جدا ،تتآلف فيه مع الروح ،تتروحن."
فلاسبيل حسب نيتشه للخروج من هذه العدمية .انحلالا او انحطاطا ،الا بهذه الروحنة ،فمن خلالها نبلغ مايسميه نيتشه الأسلوب العظيم. الذي يظم كل هذه القوى الحياتية ،بدل رفضها أو اخصائها أو إقصائها ،وبالتالي إضعاف لأنفسنا .يقول نيتشه في نفس الكتاب ( أفول الأصنام) " تسمى روحنة الشبقية حبا: إنه انتصار كبير على المسيحية ،انتصار آخر خو روحنتنا للحميمية." هنا بالضبط تتضح معالم طريق نيتشه للخروج من هذه الفوضى العارمة والتي تشكل بعمق أخلاق اللا أخلاقي ،والتي من خلالها نبحث عن حياة مثمرة ومنسجمة ،ومتناغمة بشكل جميل .لأنها لا تهدف الى إستئصال القوى الحياتية بذاخلنا ،بل تدعونا وتسمح لنا في الآن نفسه، أن نظم إلى ذاتنا كل مكوناتها من باقي القوى ،بهدف المصالحة مع الذات، وتقبلها كما هي ،وعدم الهروب منها والتسكع خارجها ،وبالتالي العيش حياة أكثر كثافة وأكثر قوة ،لأنها في العمق أكثر تناغما .
فنيتشه يدعونا إلى التحرير المنظبط بثنائية الترويض والتسامي بالغرائز بإستحضار سلطة العقل المتأهب والمدرك ،كحتمية التوفيق بين الحرية والضرورة. والتي من خلالها تكون الحياة مثمرة لأنها لا تهدف إلى استئصال/ إخصاء / القوى الحياتية ،كما فعلت الفلسفة الميثالية مند عقد ميلادها الرسمي مع أفلاطون فصاعدا ،بل تدعونا وتسمح لنا في نفس الآن أن نظم الى ذاتنا كل مكوناتها من باقي القوى ،من أجل المصالحة مع الذات ،وبالتالي العيش حياة أكثر قوة ،لأنها أكثر تناغما وأكثر بهجة ،ومجنبة إيانا كل الصراعات والإنتقاصات التي تضعف الحياة فينا.
Post A Comment: