لم يخف استياءه وهو ينح بناظره عن الجريدة ليسألني من وراء نظارته السميكة:
- ألسنا عربا؟
- بلى
- وإذن؟
- لا أدري ربما كانت أمه أعجمية لهذا حمل لقب عائلته العربي واسم من عائلة أمه الأعجمي!
فعاد مجددا ليذكرني:
- ألست تؤكد أننا عربا؟
- بلى
- فلمن يسمى وينسب الولد؟
ضحكت من هذا الكلام بسيماء من يود القول إن المعضلة أكبر من مجرد تسمية، والشرطة ليست تقيم لهذه المشكلة من وزن، ديدنها أمر واحد، إلقاء القبض عليه فحسب.
- القبض عليه أم حماية الصحفي؟
حيرني سؤال أستاذي السابق في معهد الاعلام، وقطع رحلة عودة فنجان القهوة من صحنه بالطاولة إلى فمي، ونحن نضحك بالمقهى على كورنيش الوادي الجاف الذي يقسم صدر المدينة القديمة، وكنت أشك في أننا نضحك على نفس الأمر، لكننا ضحكنا والجريدة بين يدينا.
- والله لست أدري إن كان للقبض على "إدواردو الأزرق" أم لحماية الصحافي بالإذاعة صاحب الخبر ثم التحقيق.
كان استاذي في الاعلام قبل التقاعد، مثقف وأكاديمي عملي، حضر فيما رواه للتو، بناء دار الإذاعة في عهد الاستعمار، كان يومها تلميذا في الكُتاب، يومها قال لهم الشيخ المعلم، هذه البناية التي تتعالى أمامكم لن تعلم العربية ولا القرآن، لكنكم ستسمعون أناشيد الحرية الزائفة والأخبار المخدرة، ومن يومها وهو يتساءل عن معنى الأخبار المخدرة، طبعا لم يسأل الشيخ المعلم بالكتاب، لأنه كان سيرفض أجابته لكونه كان يخشى أن تتسلل المخدرات إلى عقول تلامذته.
لما حكى لي هذا ضحكنا ملء الفيه لكنني لم أفتح النت التي بهاتفي المحمول على الإذاعة لأننا نرى معا بنايتها قبالة المقهى في صمت جدرانها الخارجية.
عاودتني طُرفة الاسم العجمي لإنسان عربي، وأستاذي المتقاعد الذي لا يزال يرفض قراءة أي خبر إلا على ورق الصحف، ولو اقتضى الأمر تأجيل ذلك الخبر إلى الغد، يعشق قراءته مكتوبا على الصحف ولو متأخرا من أن يقرأه على شاشات الحواسيب والهواتف الذكية ولو كان عاجلا، هل بيع المخدرات يقتضي الانتساب إلى الغرب دون العرب ولو على سبيل التسمية؟
- ضحك من سؤالي ورفع رأسه باتجاه مبنى الإذاعة الذي كان الاستعمار قد بناه على الطراز العمراني الأورو- متوسطي، ودون أن ينبس ببنت شفة استدار في المقهى يمينا ويسارا، ثم ارتشف في صمت رشفته قهوته الأخيرة من الفنجان المصنوع من الفخار الصيني تدل عليه الكتابة الموشومة على مقبضته العريضة المتوجة برأس تنينين صغير.
لم أشأ الإصرار على السؤالي، أعرف أن بعض العرب يحبون اسامي الغرب كما يحبون كل موضة، وإن كانت فوضى على قولة استاذي المتقاعد نفسه أيام نقده لتأثرنا بنموذج الإعلامي الغربي بالكلية..
لكني لما حاولت أن أطرح مجددا عن المخدرات التي وصى الشيخ استاذي بعدم سماعها من الإذاعة التي كانت بنايتها تتعالى أمام أعينهم وأعمارهم الصغيرة، قاطعني يطلب الصمت مشيرا بإبهامه إلى من هموا بالنهوض عن الطاولة التي جلسوا واحتسوا عليها قهوتهم الصباحية ورائنا، يفتش كل واحد فيهم في صمت بهاتفه الذكي..
وأرخيت مثله السمع لما قاله أحدهم:
- لقد وصلوا إليه كما تعاهدوا وقتلوه هذا الصباح، واضح أن ملف المخدرات سيكون دموي هذا العام.
طبعا لم نستوقف الجماعة وهم يخرجون من المقهى لنسألهم من قُتل في ملف المخدرات، هل الصحفي أم إدواردو؟
نظرنا إلى بعضنا لحظة في صمت ثم حاولت أنا خفية من تحت الطاولة معرفة الحقيقة على هاتفي الذكي الذي لا يريد أستاذي سماع جرسه وهو يرن فضلا عن الانشغال به أمامه على طاولة المقهى! لكن الظلمة أسفل الطاولة وغابة السيقان المظلمة للمكان التي حفت بها حالت دون تحقيق مبتغاي وحين رفعت رأسي عائدا إلى صحن الطاولة وجدت أستاذي يرمقني بنظرة قلق لم أفهم هل كان الأمر احتجاجا منه على محاولة استعمال هاتفي الذكي في حضرته، أم يريد أن يعرف مني من مات في قضية المخدرات؟ هز أستاذي المتقاعد كتفيه فيما يشبه عدم الاكتراث قائلا وهو يعيد النظر إلى بناية الإذاعة القديمة:
- لا تهتم ولا تغتم.. الأمر كله مجرد مخدرات!
Post A Comment: