نُقل مرة عن الداعية الإسلامي طارق سيودان، أنه التقى في إحدى رحلاته بالطائرة بفتاة عربية تقرأ رواية فما كان منه إلا أن لامها عن هذا التبذير والاضاعة للوقت في قراءة الروايات عوض قراءة أشياء أخرى تكون لها أفيد وأجد، في موقف له أكثر من أبعاد تصور مدى تعقد وعدم تعقل ما يسمى بالمشروع الإسلامي الذي يخسر مناطق عدة في معركة الوجود في التاريخ بسبب عدم فهم واستيعاب معنى، وشروط وآليات الهيمنة على التاريخ.
بغض النظر عن الفوائد من القراءة كنشاط عقلي وما ينجر عنه من استزادة وتراكم في تحصيل المادة والمعلومة معرفية لغة وموضعا والتي لا يقل فعل استهلاكها عن الاستهلاك البيولوجي، فإن الرواية تحديدا والأدب على وجه أعم يحمل في مكنوناته الموضوعية كل صنوف المعرفة من اجتماع، ونفس وسياسة واقتصاد، تشترك المهارة المخيالية للإنسان في نسجها وطرزها كما تنسج وتطرز أفكار وخيالات والعواطف على أبهى وأزهى السجاد ليسر النظارين ويستدرج المشترين في سوق فن المادة المستقوى بالمادة الفنية
فالرواية التي يرفض طارق السويدان أن تصعد للطائرة العربية وتغدو مركز اهتمام الشباب العربي، هي في عالم القراءة والكتابة اللوحة التي تحمل تفاصيلها قطعة من التجربة الإنسانية في خيال واقعها وواقع خيالها تستذكر من خلالها الإنسانية معنى وشاكلة حضورها في التاريخ وفق مراجعها الثقافية بمخصوصها وخصوصياتها ومشترك الحلم بين أبناء هاته الانسانية.
عدم سمو الفكر الحركي الإسلامي وارتقائه إلى هكذا فهوم تاريخية للمعرفة والفن وروافدهما، هو ما يبقي هذه التيارات خارج مسارات التاريخ وصراعاته، وبالتالي يفقدها الكثير من شرعية وجدوى الحضور في باحة هذا التاريخ الصاخب بموحيات الاختلاف والتنوع كأساسات متينة أحيانا للصراع قبل التعاون، التاريخ هذا الذي يتطور فيه الانسان بلا توقف ويرتقي مراقي سامقة بفضل قوة الخيال التي ميزه الله عن غيره من المخلوقات الأخرى .
وكلمة الخيال عادة ما تستقر بمعاني سلبية في فكر هؤلاء إذ أنها تحمل لديهم على أن الأمر متعلق باللا منطق واللا معقول، ولربما هذا ما استحث طارق السويدان في نصحه للفتاة القارئة للرواية بالطائرة، ما يعني أننا بصدد مشكلة في المفاهيم وبُنى المعرفة التي يبدو أنها لا تزال لم تنفذ لهذا العقل الحركي الإسلامي المأزوم في ذاته من خلال صراعاته مع تراثه الذي استعصى على إعادة التصنيف والتصفيف بل والتنظيف حتى، بما يجعله يدخل باحة المعقول ويغدو تاريخيا بوصفه انتاج بشري ولو انطلق من مرجعية إلهية أساسها القرآن الكريم!
الخيال هو تلك القدرة القوة على الإقلاع عن رتابة وصلابة الواقع والارتحال إلى ما وراء المنظور الشيئي الذي يهيمن على البصر، ويجعل البصيرة تتفتق على عوالم أخرى تصنع العجب في العقل والواقع الإنساني، فالذين تأثروا مثلا بالمكتشف الفرعوني القديم، واشتغلوا عليه بخيالاتهم الأدبية الفنية، فهم قد أعادوا استنطاق التجربة البشرية على نطاقي الزمن (الماضي – الحاضر) وفق ما انتجه الخيال الإنساني في الحضارة، وبهذا فإن الخيال يمنح الإنسان عبر أداة اللغة القدرة على تحقيق عوالم عدة داخل سياق حضوره القدري في الوجود، عوالم تحرره من هيمنة النسق الزمني والمرصوص من النصوص المادية وغير المادية سوى تلك التي انجزها أو أنجزت له، ولولا ذلك ما استطاع أن يحقق ظاهرة التجاوز الحضاري !
ورغم أن النص القرآن الذي احتفى بمستويات ومساحات كبير من القصص، كان دقيقا وحريصا على الربط بين موضوع القص وموقف أبطاله من الحقيقة ومن التاريخ والوجود، بذكر القوم قبل نبييهم (وإلى مدين أخاهم شعيبا)، (وإلى ثمود أخاهم صالحا).. تسبيق يكشف الثقافة والإرادة السائدة كموقف من تاريخ قبل أيراد فعل التغيير بالمحاججة والجدل بالتي هي أحسن كطارئ، وهذا مدار اشتغال الخيال الروائي البشري عبر فن الرواية الذي يتناول التاريخ كموقف انساني ينطلق فيه مركزيته الثقافية المحلية كرؤية منه للكون، إلا أن فهم الإسلاميين للقص والحكاية استقر عند المعطى القرآني في خلط غير دقيق لما هو تاريخي يعتمل فيه الخيال البشري منبوذ ومرفوض وما هو لا تاريخي مطلق صادر عن القدرة اللا محدودة مقدس ومحترس.
لقد تسبب هذا العزوف والموقف المستريب من الجهد الإنساني في البناء الحضاري، لما يسمى بالمشروع الإسلامي الكثير من الهزائم الثقافية والفكرية أشرت لهزائم سياسية تجلت بوضوح في ما أعقب الربيع العربي، حين استلم بعضهم الحكم والمسئولية سواء منها الجزئية القطاعية أو العامة، فلم يجد ما يقدمه للناس ويقاوم به انتاج الآخر في المعنى والفن، فخر من علياء وهمه ساقطا متساقطا في قيعان سحيقة من الخسران، ومثل كلام طارق السويدان للفتاة عن لا جدوى من قراءة الرواية يترجم بحق معنى اللا تاريخية واللا موضوعية حضور هؤلاء وفكرهم في واقعنا العربي.
Post A Comment: