مهما صاغه وساقه له خصومه من نقد وانتقاد، أحيانا لاعتبارات موضوعية وفي أكثر الأحايين غير ذلك، يظل اليسار العربي، من أشرس التيارات التي اشتغلت على مشروع الثقافة بصفتها قاعدة التغيير المجتمعي والاقتصادي، وذلك وفق أبجديات خطاب هذا التيار الفلسفي والسياسي النزاع للجماهيرية وللطبقات المسحوقة في المجتمع، ولعل تمدده في الفترات التي سبقت الاستعمار وبداية انحساره في العود الأولى للدولة الوطنية العربية المستقلة، بسبب إيديولوجية هاته الأخيرة الوطنية "التلفيقية" التي تجمع منكل هضبة فكرية شوكة، تظل في حد ذاتها قصة كاملة معبرة عن فصل من فصول اغتصاب الوعي وانهيار العقلانية السياسية التي كان يفترض تركها تتنامى بحسب ريتم النمو الطبيعي الذي يشترطه تاريخ التطور واكتمال بدر الوعي في ظلمة الجهل بالقضية الوطنية.
طبعا اختلفت ظروف اليسار العربي من قطر إلى قطر وهو يسعى للتعبير عن واقع الفراغ في الوعي التاريخي الذي تحياه الشعوب العربية المستقلة حديثا، لذا يغدو أنجعا حصر قطعة من التجربة اليسارية وتسليط الضوء عليها في مساقها الثقافي ولو على سبيل المقارنة، بما يتيح فهم مكامن الفشل خارج الانهيارات الأيديولوجية الكبرى لهذا التيار التي حدثت باندحار الشرق الشيوعي من خارطة الصراع الدولي بسقوط جدار بلرلين نهاية القرن الفائت ثم انبلاج فجر العولمة وما حملته من ضبابية على مستوى انساق ورؤى التاريخ في مشمول معناه وتفاسيره.
وقد بدا لي بحكم التشابه التاريخي والتشابك الجغرافي لتياري اليسار الجزائري والمغربي، أن المقارنة بينهما تغدو أكثر دقة في مسعى توضيح منقلب هذا التيار الذي تصدى لمشروع الاستعمار وتصدر قاطرة التنمية في الجزائر ف مقابل تصدره لقاطرة المعارضة بالمغرب.
ففي الجزائر التي عاشت قهرا استعماريا غير مسبوق بمثيل في العالم العربي، ناف عن القرن وربع من الزمن، فرض تطور الوعي بالمسألة الوطنية تشاركا نضاليا من كل التيارات والمدارس الفكرية، عبرت كلها عن رأس القضية وهو الاستقلال، ما جعل أيديولوجية الوطنية تتأسس سياسيا على فكرة الكفاح المشترك وتنقل هاته الفكرة عبر تطور الصراع بين قادة الكفاح على السلطة، من سياقها القتالي الجهادي إلى سياق البناء، وراح العقل الوطني المأسور داخل بوتقة الصراع على السلطة، ينتج داخل دائرة مركبة تركيبا نشازا، معاني للتاريخ، للإنسان وللوطن، انتهت في الأخير إلى الفشل الذريع، إذ ليس فقط لم يتمكن هذا التيار (الوطني المؤدلج) من النجاح في بلوة مشروعه الوطني على مدار 60 سنة من الاستقلال، بل فشل في إنتاج مشروع ثقافي يميز الامة عن غيرها، وما يعيشه البلد اليوم من اغتراب على مستوى الهوية بكل مستوياتها فروعها لخير دليل على ذلك.
واليسار في الجزائر كانت له ، بالإضافة إلى مشكل مصادرة الوعي الذي مارسته سلطة (الوطنية المؤدلجة) مشكل ذاتي يتعلق بطبيعة وظروف وسياق تطور هذا التيار الخاص، فهو لكونه وليد اليسار الفرنسي، فقد حاول اسقاط التجربة التاريخية ليسار الاستعمار على الجزائر، من خلال رفض الأصول الثقافية للبلد، بالسم التحديث والحداثة، بما في ذلك لغته، وناوأ كل ما يتبع ويتصل بهذا الجانب المهم في مكنون الذات الوطنية، أصر على اللغة الفرنسية، تماد في ترييف وتزييف الحقائق الوطنية من خلال إدانة التيارات المعادية لفكرته والمتصلة بالعمق العربي والإسلامي، كل هذا اسهم في انحسار هذا التيار شعبيا، مجتمعيا ومؤسساتيا، وما زاد من أزمته هو تبنيه من قبل ذوي الثقافة الانفصالية، من التيار البربريستي وليس التيار الثقافي الامازيغي الذي يحمل مطالب مشروعة، هذا التيار الانفصالي الثقافي الذي ولد وترعرع في فرنسا، بنية خلق ازدواجية ثقافية ندية في البنية الوطنية، بين الثقافة العظمى والكبرى وهي العربية الإسلامية والثقافة الصغرى الأقلية وهي الامازيغية، يكون بتشدده وانغلاقه من أبرز من أصاب اليسار الجزائري بمقتل.
على النقيض منه، كان اليسار المغربي لعقود عدة سبقت وتلت الاستقلال، أقوى تيار سياسي وثقافي مشكلا للمحضن الشعبي بالمملكة، ما جعله عرضة للسحق والمحق من قبل آلة البطش للنظام الملكي المدعوم غربيا بكل الوسائل، أي المخزن، فنظرة وجيزة للملمح الثقافي المغربي من خلال انتاجات النخب والانتلجانسيا هناك في فترات الصراع السياسي الوطني والدولي (اشتراكي – رأسمالي) تجعل صاحبها يرى المجتمع صائحا صادحا بحبر اليسار الساخن.
وما أسس لعلاقة الترابط العضوي بين نخب اليسار والشعب في جل فئاته وقواته النشطة، هو شعبية هذا التيار بمقابل نخبيته في الجزائر، يساريو المغرب كانت أزمة الهوية لديهم إجرائية أكثر منها أيديولوجية، فمن جانب اللغة، كان اليسار المغربي على الرغم من ازدواجية لسان نخبه بحكم الاستعمار متبنيا اللغة العربية كوسيلة التعبير عن الهوية وعن الافاق.
كما أن يسار المغرب لم يعادي قيم المجتمع وشرائحه بكل مستوياتها، فجل رجال الرعيل الأول تأسس وعيا على الثقافة التقليدية العربية الإسلامية البسيطة قبل أن يستوي وعيهم على الهرم الاشتراكي، كثير منهم درس في الكتاتيب والمدارس العربية البسيطة، وبقي متصلا بها حتى في مراحل تقدم الوعي الفكري والوطني لديه، وبهذا كانت الهوية والأيديولوجية أقل حدة في نقاشاته الداخلية أو مع الآخر، مما كان عليه وضع اليسار في الجزائر الاستئصالي والانفصالي ثقافيا.
واليوم نلمس تحولات في الجزائر في فكر يسارها الذي بحكم تطور الأحداث وتعقد المسألة وطنية، وما صاحبها من انبلاج لأصوات فكرية وثقافية أخرى، لم يعد في انعزاليته أو لنقل برج عاجيته الأولى، فزعيم الحزب الشيوعي الجزائري اليوم (الامدياس) فتحي غراس، المتشبع بالثقافة الشعبية، أضفى بما يشبه تفاصيل التجربة اليسارية المغربية على الملمح اليساري الجزائري على الأقل على صعيد الخطاب، باستعماله للغة عربية رصينة يتقنها هو، النزوع عن العبارات الكلاسيكية للخطاب المادي الصرف لليسار الأيديولوجي، التقليل من حدة النقد الأيديولوجي للمشهد السياسي والثقافي في البلاد.
في الحقيقة ثمة أمل في أن يتطور فكر اليسار ومشروعه السياسي والثقافي في المغرب والجزائر إذا ما ناضل أهله أكثر من أجل وعي وطني جديد، قاطع بالضرورة مع تجربته هو الذاتية، وكذا مع تجربة المشروع الوطني لدولة الاستقلال التي بلغت اليوم حدود الإفلاس وهي لم تزلها بشيخوخة بيولوجية وأيديولوجية، مصرة على مواصلة قيادة مجتمعات شابة لا تبحث سوى أن عقل تاريخي غير مؤدلج.
Post A Comment: