سمعت مرة أستاذ الاجتماع والروائي الفرنكفوني الجزائري رابح سبع، في ندوة نظمتها صحيفة الوطن الجزائرية الناطقة باللغة الفرنسية، وهو يتحدث ناقدا وناقما على سياسة التعريب التي بادرت لانتهاجها الدولة في سبعينيات القرن الفائت، بالقول أنه بمجرد القول بـ(سياسة التعريب) فهذا يعني أن الجزائر لم تكن في السابق عربية" !

واستغربت أن يصدر مثل هكذا كلام من دكتور في علم الاجتماع وكيف أمكنه المرور هكذا جانبا في تناول قضية تقفز عن الجزئية الالسنية في المكنون الاشكالي الثقافي لتتعلق في جوهرها بأزمة الهوية بوصفها كل متكامل داخل المنظومة المجتمعية والحضارية للامة.

فأن يتلبس مفهوم التعريب عن عموم الناس وينحصر لديهم في المسألة اللغوية، فهذا من عادي الأمور، أما أن يتيه في هذا الاشكال من يفترض أنه باحث في الاجتماع والتاريخ والأنثروبولوجيا الثقافية  فهذا مما يثير السخط والسخرية معا، فالتعريب عندما يختصر في اللسان فإنه لا يغدو نقيضا وندا للتغريب بل للغاته وهذا ما لا يستقيم مع منطق الواقع وواقع المنطق، فليست اللغات في بعدها الالسني المحض أو المجرد هي من تتصارع وتتقالع (من الاقتلاع) بل منظومة القيم الثقافية التي تتقارب في سلم عناصر تكوينها فتقرب بين كيانات وباعد بين طبعا بين أخرى، فالأتراك أعادوا كتابة لغتاهم باللاتينية ومع ذلك منعوا الانضمام إلى الاتحاد الأوربي باعتباره يرتكز على جوهر خاص ومحوري في مكنون عناصر كيانه الثقافي وهو الحضارة اليهودية – المسيحية.

وبهذا المعنى فالتعريب بصفته عنوان لمنظومة ثقافية خاصة عبرت عنها اللغة كأداة للإنتاج الثقافي والمعرفي داخل نسق خاص يمتد في زمكان خاص ولد وفق شروط تدافع حضاري خاصة منذ قرون، لا يمكن وقف أبعاده عند حد اللسان والقول بأن التعريب خطأ استراتيجي من قبل الدولة كونه يعيق المجتمع في تحصيل التكنولوجية التي تنتجها اليوم لغات حية كبرى كالإنجليزية أو الاسبانية أو الفرنسية. 

ويغفل أصحاب هذا الخطاب على أن الاشتغال اللغوي على التكنلوجيا في البلدان التي حسمت أمورها مع أزمة الهوية التي ظهرت مع تشكل الدولة القطرية ذات التنوع الالسني والعرقي المتعدد داخل الحدود الوطنية الحديثة الخاصة، تحرر بفعل جهود عقوله وبفضل إرادة ساسته وقادته من اللغات العلمية الكبرى كالإنجليزية ولفرنسية باتت لغاتهم المحلية والجبلية تعبر عن نفسها علميا وليس فقط أدبيا أو كلاميا حتى! 

في أوروبا الشرقية كالمجر، والتشيك وبولندا وغيرها من الدول تدرس العلوم باللغات المحلية التي جلها لا يمكنها أن تفيض في رقع التحدث بها خارج حدود مجتمعها ودولتها الوطنية، وليس لجلها أوكلها سبق في التأسيس الحضاري للإنسانية كما كان الحال مع العربية، الفارسية، وحاليا الانجليزية.

بهذا يتضح أن موقف الدكتور رابح سبع من التعريب غير المنطقي على صعيدي المفهوم والرؤية، يروم اجتزاء الجزائر من كليانية انتمائها التاريخي الممتد عبر جغرافيا متصلة وجعل الشاكلة القُطرية التي هي عنوان الكينونة السياسية للمجتمعات الوطنية حاليا، هي المنطلق التاريخي المتحرر من كل ما سبقه من تراث شكلت عناصره الذات الوطنية، فالجزائر ككيان قطري يجب أن تقطع مع عمقها، إن لم يكن بالمقدور تحقيقه جغرافيا، فيتوجب تحقيقه تاريخيا، وهذا عبر جب كل ما قبل ظهور الدولة الوطنية التي تأسست وعيا إبان الاحتلال وواقعا بعد الاستقلال.

والدولة الوطنية هاته تخلق شروط تأسيسها من العدم، بالانتماء لغويا (بحجة العلم والحداثة) إلى عائلة لغوية كبرى (الفرنسية) وإحياء والارتقاء بمكنونات الفرعية للثقافة التراثية وجعلها تلعب دور الثقافة المركزية الكبرى العربية الإسلامية باسم استرداد الهوية التي سبقت تشكل الهوية الوطنية الكبرى، ليتبدى بذلك البعد الاستعماري في رفض التعريب وفرض التغريب، مع أن التغريب هنا قد يتم حتى باللغة العربية لكونه يتسع في مشروعه لما هو أبعد من اللسان فيمس الوجدان والخاص من قيم الانسان.

فسياسة التعريب التي لجأت إليها الدولة الوطنية على استحياء ووسط مسار من الشد والجذب بين نخبها وقادتها، لم يكن مضمونه إعادة ترجمة الوثائق بالمراكز والمرافق الادارية ، بل كان مضمونها مقاومة التخريب والتغريب الذي استهدف الهوية والتاريخ الوطني، عبر عنه الروائي الفرنكفوني وليس الفرنكوفيلي (المهوس بالفرنسي) مالك حداد حين قال (أنا المنفي في اللغة) أي رغم أن الاستعمار حرمه من تعلم لغته الاصيلة إلا أنه ظل عربي الثقافة والوجدان والانتماء الحضاري لأمة تملك مقومات إنتاج الثقافة والمعرفة برصيدها الحضاري واللسان جزء ثمين منه.








Share To: