الهزيع الأخير من الليل، إنها الساعة الرابعة فجرا حيث الهدوء يخيم على القرية ما عدا هدير محرك الطاكسي الذي يكسره على استحياء، لقد سئمت إنتظار إكتمال عدد الركاب في المحطة كي نشد الرحال نحو معلوم مجهول، أعلم الى أين أنا راحل أسما فقط أما ماهية المكان ففي عداد المجاهل، الى منطقة لم يسبق لي أن زرتها لكني سمعتها مرارا، إنها زيارة لم أتوقعها من قبل لكنها داهمتني وأنا أبحث عن نفسي التي لم أجدها بعد في قريتي الصغيرة.
بدأ القدر يستبدل حلكة الظلام بنور خفيت، الطاكسي ينقصه راكب واحد الآن ليعلن إلتحاقه رحيلنا، أبي بيده محفظتي وبجانبه حقيبتي السوداء، هو رفيقي الواحد في هذه الرحلة، كنت في برزخ بين الشوق الى أمي التي ودعتها بالدموع قبل لحظات في المنزل، وبين الشغف الذي يحكم أي مغادرة أو بالأحرى أي مغامرة جديدة، سيما وأنها أول مغامرة لتلميذ بدوي نحو المدنية.
ما هي إلا لحظات حتى تحرك الطاكسي تاركا وراءه القرية وسكانها في نوم لا يزال يعانقهم بشوق، بدأت المركبة تشق تلك الطريق الجبلية التي اقرب ما تكون الى افعى اناكوندا التفت حول جذع شجرة شامخة، نمت طول تلك الطريق الملتوية ولم اشعر بالوقت كيف مضى؟ ومتى مضى؟ حتى ايقظني أبي قائلا :
- إنهض لقد وصلنا المحطة الأولى.
ما إن نزلنا رأيت تلك المدينة الصغيرة التي تتوسط الجبل والسهل، بين حياة القرى الجبلية القاسية وبداية التوغل في السهول حيث سمات الحضارة تطفو على السطح ولو بشكل باهث، خيوط الشمس الخريفية بدأت تتسلل لتحتل الشوارع والازقة، عشقت المنظر لكن سرعان ما ركبنا سيارة أخرى نحو الوجهة المطلوبة فهذه المدينة ليست تلك التي ساقني القدر إليها لفعل الدراسة، ولم يسعني الوقت لأستمتع بسحرها في ذاك الصباح المشرق، كالعادة نمت طول الطريق، مخافة أن أصاب بالدوار هذا البعبع الذي يخيف كل الاهالي كلما وضعوا اجسادهم داخل إحدى السيارات.
نزلت وأبي في عالم آخر، عالم البنيات المثيرة والممتدة، والسيارات المتقادفة من كل حدب وصوب، لم استوعب بداياته ولا نهاياته كأني مستيقظ من حلم لم أعد اتذكر معظم تفاصيله، تذكرت قريتي الصغيرة البسيطة حيث الكل يعرف الكل، تذكرت أمي وإخواتي وأصدقائي وأبي الذي سياغدرني بدوره بعد لحظات تبادرت إلى ذهني فكرة التأقلم، هل أستطيع أن أتأقلم مع هذا العالم الغريب أم أني سآعود ادراجي يوما؟
بدأ توغلنا في المدينة نحو مؤسسة الدراسة والاستقرار وكلي أمل في الحصول على أصدقاء يحترمون إنتمائي ولغتي، وكلي أمل في الحصول على سرير مريح في داخلية المؤسسة، كي استمتع بالغرق في النوم، لأنه صديقي الوحيد الذي احكي له قساوة اغترابي وابحث في أحلامه عن رفاقي، دخلنا إلى الثانوية بعد بحث طويل وسؤال هذا وذاك، هنا اجواء مختلفة، بالطبع ليست كأجواء ثانوية القرية الصغيرة، صرت الآن في مؤسسة ضخمة تضم ما يقارب العشرين الف وجه بشري، اعتدت فتيات الريف اللواتي يلبسن لباسا محتشما، وأنا الآن أمام كاسيات عاريات في مناظر كنت اشاهدها فقط على التلفاز، اعتدت الحديث بلساني الأمازيغي، والآن سأقطعه لأتحدث بدارجة لم اتقنها بعد، اه بالأمس كنت اسير في زقاقنا الضيق اودع اصدقائي، عائلتي، واساتذتي القدامى الذين جعلوا مني محاربا مغوارا بتشجيعاتهم المتوصلة، وأنا الآن في مكان لا أعرف فيه سوى ابي الذي سيغادرني بعد دقائق، كان كل ما انتظره هو نوم عميق لانسى محنة اليوم استرخي قليلا لأصحو مهيأ أكثر لمحاولة فهم عالم مختلف تماما عن الذي انجبني واحتضني وعلمني ابجديات الحياة، لكن لحسن الحظ لمحت عيوني شخصا ربما أعرفه، قلت في نفسي هل هو فعلا صديقي الذي درس معي في نفس الثانوية السنة الماضية؟ لم يهنئ لي بال حتى اقتربت منه وعرفت انه صديقي حسن، اثلجت رؤيته صدري كأنها قطعة جليد اطفأت لعيب الشوق داخلي، تيقنت من أنني لن اخوض تجربة الغريب البدوي وحدي، بل سيكون معي محارب آخر يجمعنا نفس الانتماء ونفس اللسان رغم اختلافنا الفكري لكن التجربة ستقل قساوة من أن عيشها بمفردي.
Post A Comment: