على سحابة بيضاء تسبح ببطء شديد بين الأرض والسماء، والظلام الحالك يحيط بها من كل جانب إلا أن أشعة القمر الهزيلة كانت تسلط عليها بعض النور، كانت الرياح الهادئة تشكلها بعض الأشكال غريبة المنظر، فايتخيلها الإنسان على هيئة قلب، ثم طائر تارة أخرى، ثم تلتحم بسحابة أخرى لتصبح ستارة تحيل بين نور القمر وسطح الأرض، فوق هذه السحابة كان هناك شيطانان من أشر الشياطين وامكرهم، يمتلكون إرادة ابليسية عميقة لفرض آرائهم وتصوراتهم على بني البشر، يلقبهم إبليس بالعباقرة، لديهم قرابة بليغة مع تحالف اشرار الشيطان المنظم إلى حاشية ابليس المقربة منه، كان أولئك الشياطين يتصارعون، أو يبدو أنهم يتنازعون عن مهام خطير، إذا رآهم البعض سيعتقد بأن العداوة بينهم وصلت إلى حد كراهيتهم للبشر، ولكن أصواتهم ارتفعت أكثر وأكثر، وبلغ بينهم النزاع مبلغة، كل شيطان يلوم الآخر ويقذفة بالشتائم واللعنات، والآخر يكيل عليه التهم ويصب في ذات الآخر كل الشرور التي حلت، رفع الشيطان الأكبر عمراً صوته الجهوري الذي يشبه رياح المقبرة وأخذ يقول بلهجة غليظة : ألا ترى أنه بسببك أنت إيه الوقح الدني ذو الضمير الغائب والإحساس المشبع بالكراهية السفلية بأنه قد توفي أكثر من ثمانية عشر رجل، لا لا، بل وهناك أناس تحولوا إلى جمرات.
سمع الشيطان الأصغر عمراً التهمة الموجهة إليه، فضرب بقدمه على سطح السحابة فهتزت قليلاً، وأحدث الاهتزاز اضطرابات خفيفة في السحب فسقط قليلاً من الماء المتكور داخل السحب وظن أهل الأرض بأنه مطر، ثم زفر وشهق مرتين متتاليتين ونظر ناحية الشيطان الأكبر وقال بلهجة تشبه فحيح الثعابين : لقد، لقد كنت بجانبهم، أعترف لك بأني كنت بجانبهم، ولكني برئ كل البراءة أن تنسب هذه التهمة لي، لم اوسوس لهم البته، بل، بل - ثم نظر إلى أسفل قدميه متاسفاً - بل لقد حاولت أن امنعهم من إطلاق الصاروخ. هنا ثارت ثائرة الشيطان الأكبر واندفع ناحية رفيقه وقال له غاضباً متسائلاً عما أوقفه من منع الذي أطلق الصاروخ، ولكن رفيقه نظر نحوه نظرة مليئة بالحسرة والتقهقر، ودمعت عيناه بدموع الأسف واليأس، واهتزت فرائصه اهتزاز الشياطين حين يسمعون الآلهة العلوية وقال له بنبرة هادئة وصوت متقطع : لقد حاولت أن اقترب منه، من، من ذلك الرجل الذي ذهب لإطلاق الصاروخ، حاولت أن أدخل إلى أعماقه، إلى شرايينه، اختلط بدمه، اتمرغ بين تفكيره، أغير مساره، ولكن - ثم دمعت عيناه وسقط على الأرض وقبض على سيقان الشيطان الأكبر وقال -: ولكن، ولكنه في حين اقتربت منه، سمعته يتمتم بكلمات من القرآن، وأنت تعلم بأن القرآن يحرقني، ثم رفع صوته مكبراً لله، منتصراً لدينه، متمنياً أفدح الخسائر لعدوه، لقد ذكر البسملة، وقراء بعض الآيات، هذا، هذا ما منعني يا رفيقي من إيقافه.
في الوقت الذي كان يحدث ذلك الحديث الصارخ، والعتاب الأليم، مرت سحابة أخرى وعليها أحد حكماء الشياطين، من ترجع إليهم الأمور حين الاختلاف، ويرشد الشياطين الصغار بالأحاديث الحكيمة، والاقوال البليغة، والأوامر والنواهي الواضحة، نظر ناحية السحابة التي يدور عليا الحديث الممتزج بالدموع والقهر والاوجاع والأسف وطار ناحيتهم، وقف بجانبهم ثم نظر إلى الشيطان الأكبر وهو واقف ويرتسم على ملامحه الحسرة والندم، العتاب والشعور بالضمير الممزق، والمشاعر المتهالكة، وبين أقدامه الشيطان الأصغر دامع العينان، على خدوده فيضان من الدموع، ينظر الى الاعلى متاسفاً راجياً رحمة الأكبر ثم أفلت يديه من سيقان رفيقه ببطء ونهض بستحياء ووقف بخجل وقال للشيطان الحكيم : اعذرنا إيه الأب، لقد صارت حروبهم ناصرة لله، جميعهم يقولون ذلك، والمساكين والضعفاء هم وقود الحرب. أقترب الأب الحكيم من الشيطان الأصغر وقال له بلهجة ممتلئة بالرحمة والوقار : لقد ناقشت هذا الأمر مع إبليس، وقررنا أن يسلم البعض من المردة والشياطين من أجل حماية الضعفاء والمساكين والفقراء والمشردين الذين فروا من الحرب وتبعتهم القذائف، والنازحين الذين يبحثون عن الأمان ويدركهم الموت، والأمنين الذين يسكنون الحياة في حضن الموت نفسه. استدار الشيطان الأكبر وعليه علامات الحيرة والشك ثم سأل الأب الحكيم : وهل سينفع هذا القرار؟ أقصد هل نستطيع أن نحمي الأبرياء عندما نصبح مسلمين؟ أقصد! أو أخف أن نتأثر بأفكار كل جماعة ونزيد قوة شيطانية فوق قوتهم! ضحك الأب الحكيم وقال بهدوء وهو ينظر نحو النجوم المضيئة في الأعلى : سنشرف على هذا العمل نحن معشر الحكماء! سنتولى إدراة هذا المشروع البرئ للابرياء وحماية الإنسان الضعيف! هنا تقدم الشيطان الأصغر وسأله : وكيف ستشرفون على هذا العمل؟ كان الأب الحكيم في تلك الأثناء ينظر نحو الفضاء المظلم، يمد عصاه السحرية نحو القمر وقال وكأنه لا يجيب على سؤال حفيده بسبب انشغاله بالتفكير حول القمر ولمعانه : سوف نشرف على جميع الأفكار التي ستعتنقوها، سنراقب تحركات الجميع من الغرفة العظماء، وسنتحكم بأفكاركم نحن، صحيح ستصبحون مسلمين، ولكن إسلامكم سيكون كإسلام العجائز والمؤمنين بالسلام، ستحبون الحياة وستكرهون فكرة الشهادة.
بلمحة برق، غير الأب الحكيم موضعه وهيئته، إذ أنه تحول إلى قطرة ماء، كذلك فعلا أحفاده المتشاجرين، وبينما هم داخل السحابة العائمة في الهواء، قال الأب الحكيم أو الشيطان الحكيم: أتعلمون مالذي صعد الى السماء الآن؟ هل رأيتم ذلك النور الإلهي الرحيم، وتلك الروح المقدسة الطائرة بجناحين من نقاوة الكون العظيم، وطهارة الخلود، وعظمة السرمديه؟ هل ؟. ثم توقف عن السؤال حينما قاطعة الشيطان الأصغر متسائلاً عن هذا النور العظيم الذي جعلهم يختفون من أمامه لجلالته وعظمته وسلطانه: قل لي؟ ماهو هذا النور إيه الأب الحكيم؟ وخرج الشيطان الأكبر من قطرة الماء التي بدأت تتحرك وكأنه حان دورها بالسقوط وسكن الأخرى وقال بهمس : إن هذا النور هو أوراح الضحايا يا رفيق، ضحايا الصاروخ الذي لم تستطع إيقافه. اقترب منه رفيقه الأصغر وقال : وذلك النور العظيم؟ أنه نور الله؟ قال له الأب الحكيم : تلك الروح المتوهجة بالنور هي روح ليان، ليان العصفورة الإلهية المسافرة إلى حيث الإله، تلك التي تحولت إلى فحمة، أو كتلة من السواد، لقد بدلها الله بنور أضاء ما بين المشرق والمغرب.
وخرج الأب الحكيم واستعاد هيئته التي كان عليها وخرج بعده أحفاده ثم نظروا نظرة رجل واحد نحو الفضاء المظلم، وإذا بهم يلمحون بقايا نور ليان وهو يسافر إلى حيث الله. طار الأب الحكيم عن السحابة وتوقف قليلاً أمامهم وهم ينظرون نحوه وقال بحكمة وهدوء : يجب أن ننقذ البشرية، يجب يا أحفادي أن ننقذ سمعتنا في الأرض، إني أخاف أن نتشبه بالبشر فنصبح منهم، اعلموا أنكم أرفع وأسمى من حماقتهم الشريرة، كونوا خير خلف لخير سلف، إن النزاع الأدمي قد بلغ ذروته، وهذا يشغلنا كثيراً، يجب أن ننقذ الأرض أولاً من الدمار، وننقذ البشر من الموت. وداعاً يا أحفادي، سنصبح شياطين نحب الخير ذات يوم، لن نكون كما الأدميين الآن، افتخرو بشيطانيتكم، فإنكم لم تقتلون أحد، ولم تسرقون أحد، ولم تهجرون أحد، بل تتالمون على مقتل البشر، آه، لقد احبنا الله.
انتهت
Post A Comment: