(1)
كانت “ريما” تُنهي ترتيب شقّتها، وكان جلبابها العنّابيّ مُتعرّقًا، شَمَّرته قليلًا وعقدته فوق خصرها فبدا بياض ساقيها البللوريتين، كانت تضرب بهما الأرض في هِمّة، ألقت بكل ما ليس له قيمة في سلّة مهملات لها أربع إطارات صغيرة، تجرُّها من مقبضها خَلفها فتبدو وكأنها جزءًا غير منفصل عنها.
حرَثَت الأرض بمكنسة خَشِنَةٍ قاسية، تنزع عن وجه السجاد ما عَلقَ بهِ من أتربة وفتات بسكويت بعثره طفلها قبل أن يخلد إلى النوم، افترّ ثغرها عن ابتسامة وهي تتخيل حركاته الطفولية، ما أجمل ذلك الطفل المُحبب إليها! نظرت بطرف عينيها نحو باب غرفته لعلها تلتقط صوتًا يوحي باستيقاظه، لكنها لم تلتقط شيئًا، لَفَتَ انتباهها نغمة الغسالة الأتوماتيكية التي انتهت من دورة غسيل طويلة أعادت تشغيلها ثلاث مرات كي تُزيل بُقَعَ الصلصة والشيكولاتة العالقة بملابس طفلها، ألقت بالمكنسة أرضًا واتجهت نحو المطبخ، كان الشيء الذي وهبها بعض الطمأنينة أنها قد انتهت من ترتيب المطبخ قبل أن تبدأ في ترتيب الشقة، فتحت باب الغسالة لتُخرج الملابس، فحصتها جيدًا، تمتمت “الحمد لله..أخيرًا” قبل أن تضعها في طبق بلاستيكي كبير.
(2)
الشوارع ساكنة في الليل، غارقة في بحر صمت أزليّ، مسرح أحداث كبير لمخلوقات الله التي لا تعد ولا تُحصى، نسمعها ونحن نتقلّب في نومنا، نشعر بخطواتها الواثقة، والمرتعشة أحيانًا، كأن العالم ينام كي ينشأ صراع آخر غير الذي يصنعه البشر.
من طرف الشارع المترامي يمينًا، انعبث صوت مواء مُزعج، يوحي بمعركة قططية شرسة، كانت حاوية القمامة الممتلئة هناك تعج بقطط مختلفة الألوان والأحجام، كل له طريقته في فرض سيطرته على الآخرين، لكن من يُمعن النظر قليلًا، سيعرف أن ثمة أنثى واحدة، بين عدد كبير من الذكور.
كان لون القطة مشمشيًّا، لمع أسفل إنارة الأعمدة الصفراء فبدا أكثر رونقًا مما يبدو عليه في النهار، تبعها عدد من الذكور ذوي الألوان المختلفة، الأبيض والأسود، المرقّط، هربت فحاصروها، تراشقوا بالمواء، كلُّ قطٍّ يعلن أحقيته في الفوز بها، تصارعوا فهرب بعضهم، وظل البعض الآخر يُكمل عبثية المشهد، أفلتت بجسدها في غفلة منهم وهم ينغمسون في العِراك، اختبأت في مدخل إحدى البنايات التي تركها صاحبها مفتوحةً، دون قصد.
(3)
أعدّت “ريما” شايًا ساخنًا، جلست تلتقط أنفاسها المُبعثرة من التعب، كانت الأريكة تُشعرها براحة لم تألفها من قبل، وكانت رشفات الشاي بين شفتيها لها مذاق مختلف، تمددت حتى استرخت، جالت بعينيها في المكان الذي أصبح أنيقًا، تثاءبت، لكنها غلبت النوم بكل ما أوتيت من قوة، استرجعت اليوم الذي مضى، وصور الشقة التي قلبها طفلها رأسًا على عقب، نفضت عن رأسها تلك الصور وراحت تستمتع بكل قطعة من أثاثها وهي في حالة مُنظّمة، تذكرت أنها منذ عامين لم تعد تحظى بالراحة إلا في مثل ذلك الوقت المتأخر من الليل، حينما ينام طفلها، ويعود كل شيء إلى ماكان عليه، صفعها شوقها لزوجها المُسافر، أضنتها تلك الشهور الطويلة التي يمضيها بعيدًا في بلادٍ غريبة، كان في آخر مكالمة بينهما يصف لها قسوة الحياة هناك، ساعات عمل طويلة، وسكنات لا تهب لساكنيها الراحة ولا السكينة، حتى الطعام هناك، لا طعم له، كما أن الوقت هناك أيضًا لا يمر.
نفضت عن رأسها كل ما يثير حزنها، وضعت كوب الشاي الذي انتهت منه على الطاولة، أغمضت عينيها وأطلقت لقلبها العنان لينبض، أصبح موعد عودة زوجها وشيكًا، بدأت ترتب في خيالها كل ما سترتديه، ما ستطهوه له، ما تود أن تبوح له به، لكن بكاء طفلها انتشلها من خيالها العميق، هبّت واقفة، اتجهت بخطوات قَلِقَة نحو غرفته، كان طفلها يبحث عن ببرونة الماء، كانت قد ملأتها ووضعتها بجانبه تحسبًا لبحثه عنها ككل ليلة، التقطتها ووضعتها برفق بين شفتيه، هدأ بمجرد أن شعر بالماء يسري فوق لسانه، أحكمت غطاءه، وانسحبت بهدوء خارج الغرفة قاصدة المطبخ، حيث الطبق البلاستيكي المتكدّس بالملابس، حملته بين يديها واتجهت به نحو الشُّرفة.
(4)
مدخل البناية المُظلم، كان أكثر أمنًا من الشارع، خاصة تلك المنطقة القريبة من حاوية القمامة، بحثت ذكور القطط عن القطة في كل مكان، داخل الحاوية وأسفل منها، وأسفل سيارة مُغطّاة واقفة بجوار الرصيف، وفي أماكنَ أخرى كثيرة، باءت محاولاتهم للعثور عليها بالفشل، فحملوا صراعاتهم وذهبوا ليبحثوا عنها في شوارع أخرى.
هدأت أنفاسها فنامت في صندوق خشبي دافئ، مُبطّن بقماش مشدود فوق قطعة إسفنجية، ما إن أغمضت عينيها حتى شعرت بأنفاس قريبة، وأحست بما يُشبه الذيل يتحسس جسدها، كان قطًا أبيضَ، هادئًا ولطيفًا، لا يمتُّ لقطط الشوارع بصِلَة، بدا ذلك من ردة فعله الغير عِدائية، فأصدرا مواءً عاليًا ثم هدءا.
فرَّا من مكانهما إثر دبيب أقدام اقتربت فجأة، كان الشارع هادئًا لحظة فرارهما، لا يعج بالقطط والصراعات، تمشيّا معًا، تمسّح بجسده في جسدها، كان لهما مواء خافت، انقطع ذلك المواء حينما تفاجئا بزمرة القطط التي كانت تتصارع من قبل تحيط بهما.
هؤلاء الذكور الذين فتكوا ببعضهم، بدوا يدًا واحدة أمام قط واحد، تعملقوا لما رأوا القطة راغبة فيه، التفوا حوله، باغتوه بضربات من مخالبهم، ألقى بجروحه بعيدًا، قفز في الهواء وهو يموء في غضب، انقض على أحد الذكور وأصابه بمخالبه في عينه اليسرى فتفجّرت منها نافورة دماء، فرَّ هاربًا قبل أن يفقد عينه الأخرى، وغرسَ أنيابه في ظَهر قطٍّ آخر فانطلق حتى طواه الشارع، أما الذكور الأخرى، تراجعت خشية أن تثير غضب القط، الذي لا يبدو عليه التشرد.
حينما خلا الشارع، كان الفجر قاب قوسين أو أدنى، لعقت القطة جراح وجهه بلسانها، قاسَمَته آلامه التي أصابته، واقتسم معها ما تبقى من شوق، أحنى رأسه حتى لامست رأسها، تمسّح بجسده في جسدها مرة أخرى، وسارا حتى بلغا منتصف الشارع.
(5)
من الشُرفة ذي الإضاءة الزرقاء، بدت البيوت هادئة، تُخفي صراعاتها عن أعين الغرباء، وضعت “ريما” الطبق البلاستيكي المتكدّس بالملابس فوق سور الشُّرفة ووقفت تتأمل ذلك الهدوء، تعلم أن أشياء كثيرة تدور خلف كل شرفة مغلقة، وكل نافذة صامتة، أزواج يحتضنون زوجاتهم، وآخرون غاضبون، وأحداث أخرى، تناولت قطعة من الملابس لتعلقها فوق حبل الغسيل، كانت دائمًا ما يحلو لها أن تنشر الملابس في مثل ذلك الوقت، فيما عدا الأيام التي يتواجد فيها زوجها، حينها يكون حالها كحال الشرفات المغلقة والنوافذ الصامتة، علَّقت قطع الملابس واحدة تلو الأخرى، ثبَّتت كل قطعة بمشابك خشبية، تنهّدت عندما رأت القطين يمرحان وسط الشارع، يجريان، يقفزان بجسدين لا تُكبّلهما قيود الحياة، حَسَدَت تلك الحيوانات التي لا تعبأ بمشاكل الدنيا، ولا تحمل عبئًا للعيش، تفعل ما يحلو لها، وقتما وأينما يحلو لها، والشيء الأهم، أن ليس هناك قطة تشعر بما تشعر هي به، لا توجد قطة تعاني غياب زوجها المُسافر، كما تُعاني هي.
(6)
في منتصف الشارع، توقف القطان عن السير، جذبتهما الإضاءة الزرقاء التي انبعثت من شرفة “ريما” وافترشت رُقعة من الشارع، لم ينتبها لخيالها المُنعكس على رُقعة الأرض المُضاءة بالأزرق وهي مشمرة ذراعيها، حتى هي، لم تعد ترى القطين، حالت قامتها القصيرة من رؤية الشارع بعد أن تكدَّسَت الحبال بالملابس.
أسفل شرفة “ريما”، اشتعلت النشوة في جسد القطين، تَمَسّحا ببعضهما أكثر فامتزج شعر القطة المشمشي بشعر القط الأبيض، وغابا عن كل شيء حولهما.
رعشة مُفاجأة أصابت يد “ريما” وهي تعلق آخر قطعة ملابس، انفلت على إثرها المِشبَك من بين أصابِعها، سقط في الشارع أسفل الشرفة، أنصتت لتسمع صوت ارتطامه بالأرض، لكن الصوت الذي التقطته أذناها، كان صوت مواء قطّين خائفين، أدركت أن المِشبَك قد سقط فوقهما، لمحَت كلًّا منهما وهو يهرول مذعورًا في عكس اتجاه الآخر، عبّرَت بابتسامة خفيفة عن سخرية جالت بخاطرها، أيُفزِعُ مِشبَكُ غسيل قطَّين لهذا الحد؟!
لم تكن “ريما” تدري شيئًا عن ذلك الصراع الذي اشتعل في طرف الشارع عند حاوية القمامة وهي تصارع الفوضى في شقتها، ولا عن تلك المعركة التي تعملق فيها قطٌّ وديع ليفوز بوليفته، لم تجد تفسيرًا لخوف القطين الغير مُبرَّر، لكنها أدركت أن مِشبكًا – ذلك الشيء الصغير- يستطيع أن يقطع خلوة عاشقين يحظيان بالقليل من الوقت في غفلة من الكائنات، وأن ثمَّةَ شيء صغير يستطيع أن ينكأ جراحًا نائمة، فأدركت عكس ما ظَنّت، وهو أن القطط أيضًا، يُمكن أن تُعاني.
Post A Comment: