لم يكن جالسا سوى على حجرة صلبة، تصارع عجيزته التي ما انفكت تشتكي من كدمات طول المكوث. ينظر في قرص الشّمس متمتما بكلمات مهموسة، لمّا غلبه ضوء الشّمس مدّ يده صوب جيب سترته العلوي، تلمّست رؤوس أصابعه مساحة الجيب، ثم نزل بيده مسرعة نحو جيب سرواله الخلفي، نثار زجاج أصاب أطراف أصابعه، بصعوبة استلّ نظّارته الشّمسية، نظر في الشّمس الضاوية، علّق نظّارته المقوّضة أمام قرصها وراح يبحث عن الماركة المسجّلة العالمية.
عاد إلى البيت، لم يثنه كسر نظّارته على إكمال اليوم بكل نشاط الأيّام التي سبقته، والتي حين يصفها، يقول أنّه لا يحدث فيها شيء، لكن البيت كان تلك الصّبيحة منشغلا في أمر طارئ، لقد ماتت الجارة "وطن"، الممرّضة القديمة التي لم تترك بنتا إلا وحثّتها على مزاولة مهنة التّمريض، فالنّساء لا تكشف عنهنّ سوى النّساء، ثم تنخرط معهنّ في سجال عويص، طويل عريض، حول ذكريات الثورة وكيف استطاعت أن تقنع والدها بالالتحاق بميدان الشّرف لتكون إلى جانب أخواتها في نسج ملحمة الوطن، لكن في النّهاية كانت تعلن تعبها من المهنة وأنّها فقط تروي حكايتها، فلقد كانت النّسوة في الجبل يغطّين مساحة كبيرة من نقص الكفاءات، فالضمّاد في شوالها كان يحرسه الرشّاش، ولم تكن لتنسى وهي تحدّثهنّ عن الجبل والثورة والتّمريض قصّة حبّها الكبرى، تلك التي نسجتها الصّدف، إذ في إحدى المعارك، وهي تفرز حالات الإصابة حتى يتمكن الطاقم من معالجة الأوْلى فالأوْلى، شدّ يدها جريح ودسّ فيها ورقة صغيرة، ثم ضغط عليها حتى تنتبه إلى وجهه وتتذكّره، كانت حالته بسيطة ولم تستدع منها أن يكون في صفوف الحالات المستعجلة، وفي المساء لمّا ارتاحت إلى مكانها في ذلك الكهف المليء بالمجاهدين، بالكاد استطاعت أن تفوز بفنجان قهوة، وفتحت الورقة الصّغيرة، كانت رسالة مقتضبة:
يا جميلتي عرسنا غدا سيكون في الظّهيرة.
لأوّل وهلة ظنّتها رسالة غرامية، لكنّها رست برأيها عند فكرة الرّسالة المشفّرة، مرّت الأيّام وراحت تبحث عن ذلك المجاهد المعطوب، لم تجد له أثرا إلى أن كان صباح ذلك اليوم حيث وقفت أمام أربعة أشخاص يبحثون عن أحدهم حضر مع فوج الجرحى في معركة "الشّمس"، اقتربت منهم واستفسرت عمّا يريدونه، فأعلموها بأوصاف المعني، كان هو عينه ذاك الذي دسّ في يدها الورقة، زادت حيرتها، هل تخبرهم بما تركه عندها أم لا؟ قرّرت في الأخير أن تبوح بما كان من أمره معها، وقبل أن تسلمهم الورقة نادت على قائد فرقتهم ليكون شاهدا على ذلك، ولمّا فتحت الورقة، انفرجت شفاههم عن بسمات خفيفة، وأخبروها أنّه المجاهد سي جمال، وكان مفتونا بحب الوطن، جُنّ في إحدى المعارك، فلم تعد شفتيه تنبس سوى بـ "تركت رسالة لها"، ومن وجدت معها فهي حبيبته "وطن"، ومنذ ذلك اليوم حملت ذلك الإسم.
علقت صورة المستشفى بأذهان الفتيات، وكلّما التقتهنّ الخالة "وطن" إلا وعاكسنها بما طفق على مخيّلتهنّ من الدّماء العالقة بالأرضية والجدران وطاولات الفحص والعمليات الجراحية، والصّراصير التي تجهز على الغرف في الظلام، والهررة التي أصبحت صديقة للمرضى حتى إنّها احتلّت بعض الأسرّة وصارت تكشّر عن أنيابها كلّما اقترب منها أحدهم ليجهّز السّرير لمريض جديد، تسمع منهنّ ثم تفجّر قهقهة مدويّة في وجوههنّ مقلّدة صفير سيارة الإسعاف صارخة أنّها لم تفقد عقلها بعد، هي فقط أودعته الشّمس عندما أخبرتها أنّها لا تحرق ولكنّها تساعد النّاس على معرفة أنّ الكعك صنعته النّار.
بعد أن قدّم واجب العزاء في "وطن"، تجهّز للجنازة وأكمل يومه في شرب فناجين القهوة والانتشاء بترتيل "والشّمس وضحاها.." على روح الفقيدة التي كانت تحبّها لأنّها تذكّرها معركة "الشّمس"، لكنّه بحث عن شمسه التي يغازلها كل يوم بتعليق ناظريه فيها فلم يجدها، تلبّدت السّماء بغيم كثيف، وأجزم الجيران أنّ ما حدث كان بكاء سماويا على "وطن"، حرّك رأسه في إشارة نفي، ثمّ أشعل سيجارة وراح ينفث الدخان في وجه السّماء، منتظرا أن تنفرج الغمامة عن وجه "الشّمس"، شَعَرَهُ ينفلت شيئا فشيئا من ثقل كبير، ويستحيل إلى كتلة في وزن الذبابة تتلاعب به نسائم خفيفة، رمت به على ضفاف الشّمس التي لا تحرق، حرّك ناظريه فيها جيّدا، اندهش لأنّه لم يتلألأ ضوئها في عينيه، ولم يتفقّد نظّارته، فقط حاول لمسها، وكانت دهشته كبيرة حين وجدها باردة كما برودة الأشياء في الثلاجة، تساءل مصدوما:
أنُحرق من البرد؟
بدت له بعض الأشياء تتحرّك داخل قرص الشّمس، فإذا بها أجسام عارية تنهض لتوّها باحثة عمّا يسترها متحرّرة من أنابيب ثلجية يمرّ بداخلها سائل يشبه ضوء الشّمس، شفّاف ولامع، حينها فقط ضيّق من عينيه وتحسّس جبهته فوجدها ساخنة قليلا، ثم شعر يدا تلامس كتفه، التفت فإذا بها "وطن" تسأل عن معركة الشّمس، غنّى بداخله أغنية للثورة، وردّد في سرّه:
ما أجمل أن تنتقل الثورة من الجبال إلى الشّمس !
وسّع من عينيه حتى كادت أجفانه تنفصل عن رأسه، ثم ضيّقهما حتى كادتا تلتصقان فلا تنفصلان، ثم فتح عينيه ببطئ شديد، فصادف وجه "وطن" مبتسما على غير عادته، مشعّ كما الشّمس في أصبوحة دافئة، حاول أن يخرج نظّارته، منعته "وطن" ولكنّه أصرّ على إخراجها، وضعها على عينيه فبدت له الأشياء كما لو أنّها تتحرّك متوجّهة نحوه، ارتدّ إلى الخلف، لكن كل ما كان يحيطه فراغ في فراغ، فمسك نفسه بشدّة مخافة الانزلاق في الهاوية مادّا يده صوب "وطن"، شدّته إليها وحضنته على غير العادة، وانتظر حكاية المستشفى وقصّة المجاهد ومعركة الشّمس والفتيات المشاكسات، فلم يجد شيئا من ذلك، قالت في صوت يشبه الأغنية:
نحن هنا لا نموت، نعيش فقط ولا نهرم..
أعطته أنبوبا من زجاج ليّن، بداخله مادّة تشبه الهلام، حدّق فيه كثيرا وسط صدمة شديدة وخوف بدأ ينتابه من أن يفقد طريق العودة إلى بيته الذي يراقب من نوافذه الشّمس وهي تمسح حيّه ليصبح له معنى ولون، تذكّر حينها:
آه لولا الشّمس لكان لحيّنا وجه الكهوف.
أخرجته "وطن" من سرحانه قائلة:
اشربه دفعة واحدة ولا تترك لنفسك الوقت كي تتبيّن طعمه ولا لونه، سوف يتحوّل كل شيء في ثانية.
ارتهب لأول وهلة لكنّ وطأة الخلود شديدة على عقله وعقل كل إنسان، فنشد الركون إلى الحياة دون نهاية، مسلما نفسه إلى لذّة مستحيلة شعرها و"وطن" تنفث في روعه كلمات لم يتبيّن منها سوى:
"..كن صديق الشّمس ولا تفتح عينيك سوى في الظّلام".
تلمّس حدود جسمه فإذا هو في تابوت بطول قامته وعرضها، وفي زاويته العليا على اليمين قرص مضيء يشبه الشّمس، ولكن كل مساحة التابوت مظلمة، ففتح عينيه، كان مدهوشا وهو يكتشف حدود جسمه ولونه الذي تغيّر والأصوات التي كان يسمعها خارج الصّندوق، يداه لم تعد لها أصابع، ورجليه أصبحتا مكفّفتين كأرجل البط، ونبتت لرأسه قرون متعدّدة، استطاع بإحداها أن ينسف خشبات الصّندوق، فوجد نفسه وسط كل من فقدهم منذ سنين، تنبّه إلى فمه الفاغر:
ظننتهم ماتوا !
بصوت واحد كأنّه كورال سمع:
ظننّاك حيَيْت.
كان ما قاله همسا بينه وبين نفسه، احتار كيف سمعوه !
بدت له العمارة التي يسكن بها مستطيلة أكثر ممّا اعتادها، نوافذ بيوتها مفتوحة، راح يقسم للذين يحيطوه بأنّه يومها، رأى امرأة تشقّ ثيابها لاطمة خدّها مولولة صارخة مستنجدة بالمارّة كي ينقذوا جدّتها. أقسم لهم أنّه كان أوّل المستجيبين، وعندما دخل إلى غرفة المريضة وجد عينيها مفتوحتين وكذلك فمها، ربّما أسلمت الرّوح، لكن جسمها كان باردا، بصوت واحد كما الأوّل، سمعهم:
ذلك البرد الذي ألبسناه للشّمس.
شعر ببرودة شديدة تكتسح جسمه، بحث عن نظّارته فلم يجد جيوبا ولا سترة، فقط جسده تحوّل إلى خلايا خشبية تتوالد، تلمع من داخلها مصابيح صغيرة، وتنبعث من قرون رأسه أصوات خافتة كما أزيز المكن، وعينيه تشتغل آليا كما لوكانت عينا روبوت، ومن كل أرجاء ذلك المكان المظلم الذي لا تنعدم فيه الرّؤية ينبعث صوت واحد مستديم:
لقد صرت عصيّا على الموت.
أصابه تململ رهيب وراح ينظر في كافة الجهات والعرق كأنّه ماء يجري من حنفية مفتوحة فسد مغلاقها، يرمي بناظريه هنا وهناك لعله يبصر طريقا إلى عمارته التي عشق من خلالها الشّمس وتلذّذ في غرفها بدفء البطانيات، وعرف شكل الجسم حين يصير إلى الأزرق المشوب بصفار باهت، ولما لم يجد، راح يصرخ ويتشبّث بالفراغ لعله يهوي في مكان قريب من بيته، وهو يعارك الفراغ شعر بيد تمسكه من رجله وتحاول منعه تسلّق النّافذة، التي تفصل الطابق الخامس عن الأرض، نظر في وجه أمّه، فإذا بها تمدّه بطبق الكسكسي الذي أحضرته لعزاء العجوز "وطن"، مبسملة ومستعيذة بالله من الشّيطان الرّجيم، مسح على جبهته همر العرق الذي ساح على وجهه وبلّل قميصه، ثبّت ناظريه على طاولة الليل، كان زجاج نظّارته مكسورا، والجرح السّطحي الذي بأصبعه مازال يؤلمه قليلا، ونسيم ليلي خفيف يتسرّب من النّافذة، والسّماء تشع نورا، ردّد في سرّه: ".. والقمر إذا تلاها.." (آية)، ونزل مسرعا مأخوذا بأصوات المرتّلين تهزّ سرادق العزاء.
Post A Comment: