غادر مجلس اللغط والهراء اليومي ، كان كل مساء يتلاقى مع ثلة من أصدقائه ، يشاركهم آحاديثهم المضحكة ومغامراتهم في خدش الحياء وهتك الأعراض ، يشاركهم لذة الاغتياب وإشاعة الفضائح وجلها موهوم مختلق.
في طريقه إلى منزله رأى أحد أبناء جيرانه قد خرج من المسجد متجها نحو منزله ، ويبدو ساكنا مرتاحا أكثر مني رغم ما خضت فيه من أخبار مضحكة وطرائف مسلية .تراءى له أنه ليس في الطريق الصحيح وتراءى له أن هذا الفتى وجد في سيرته اليومية سرا أعمق مما يتصور.
أتم طريقه متسائلا محاورا نفسه مفكرا في أهدافه وفي غايته من هذه الحياة.كانت أمه وأبوه ينصحانه باللين كل ما دخل في وقت متأخر في الليل أو النهار فلا يكاد يشاركهم وجبة من الوجبات.ولأنه وحيد الأسرة فإن أبواه لا يستطيعان إزعاجه فكان نصحهما له بلطف بعيدا عن التوبيخ والتهديد.
في هذا اليوم بالضبط طرأ شيء ما غير مزاجه ونطرته إزاء ما يقوم به يوميا. اتكأ على أريكة ، ثم تحول منها إلى زربية ، عاد إلى الجلوس وأخذ يفكر ويفكر وانتهى به التفكير إلى العزم على زيارة ابن الجيران محمود ...
قرع الباب ، وفتحت له الأم وأمرته بالدخول والانتظار ريثما ينتهي محمود من ورده اليوم الذي يقدسه ولا يستطيع إهماله مهما كانت الأحوال.
جلس قبالته على كرسي في مكان يمكنه من رؤيته في باحة الغرفة الأخرى. كان جالسا ساكن الجوارح وأمامه مصحف متوسط الحجم يقرأ فيه بصوت خافت .وحين انتهى رفع يديه إلى السماء وأخذ يدعو ، ويا للعجب لقد سقطت تدحرجت دمعتان فوق خديه الورديين الجميلين.وهو لم يعرف البكاء منذ سنوات.
نهض بهدوء وحمل المصحف وأعاده إلى مكانه في رف هناك.
جاء إلى صديقه وصافحه ودعاه ليجلسا في غرفة الضيوف.في الغرفة زرابٍ مفروشة وفي كل زاوية من زواياها مائدة صغيرة عليها كتيبات ومجلدات يبدو أن مواضيعها حول الإسلام وقضاياه.
تحدثنا كثيرا وكان حديثه ينضح بكلمات تدل على تمسكه بالتعاليم الإسلامية (إن شاء الله ، بارك الله فيك ، جازاك الله خيرا ، أخي ،وقاك الله من ذلك ،أتمنى من الله ،....)
خرج وكان بين التذمر والتفاؤل في إصلاح نفسه ، وهو يفكر في ذلك التفت ورأى محمودا وراءه يناديه ليسلمه كتيبات .ناولها إياه وتمنى أن يقرأها ويعيدها إليه ليتسلم أخرى بعد أسبوع أو حينما ينتهي منها.
قرأ الكتاب الأول فصار متبصرا بخطواته التائه خارج الطريق المستقيم ...قرأ الثاني وصار يصلي كأبيه وأمه اللذين تعجبا من تحوله من اللامبالاة إلى الاستقامة..قرأ الكتاب الثاني فصار في درب الخيرات واكتساب الحسنات.
خرج من المسجد هذا الصباح وهو يقول في نفسه "ما أجمل أن تصير مؤمنا ...كم يضيع من أعمارنا خارج النور ..اللهم اهدنا واهد بنا إلى هديك الذي لا هدي بعده ولا قبله"







Share To: