عارية في الحمام، ترفع دبة ممتلئة بالماء الى الاعلى، تصب على جسدها الماء البارد ببطء وشرود، شعرها الطويل إلى الخصر يتماوج كشلال، وينساب بعذوبة ونعومه، يتخلله الماء بهدوء، أسود كلون عينيها، تمرر يديها على صدرها بحركة بطيئة، جسدها المشبع بالسحر، ممشوقة القوام، خصرها كقبضة جنبية يمانيه ثمينه، تنظر ناحية باب الحمام، لم يكن بابٌ حديدي، بل رقعة من الثياب الممزقة، ستارة منسدلة على الباب، تحيل الرؤية من الخارج إلى الداخل، تفكر بصمت بينما يدها اليمنى تفرك حلمة ثديها الأيسر، ويدها اليسرى قابضة على قطعة الصابون تمررها على بطنها في بقعة واحده، لاح شبح إبتسامة خافتة على وجهها مع تنفس بطئ ملئ بالغياب نتيجة دغدغة حلمة الثدي، تبسمت مرة أخرى، يبدوا أنها  تذكرت موقف طفولي، أو ذكريات جميلة، كلمة طيبة، أو وعد ربما تحقق، اختفت الابتسامة، عادت إلى شرودها الأول، صوت بكاء طفلها "حسان"  عم أرجاء المنزل ليقطع عنها حبل الذكريات المستحيلة من النسيان، رفعت "دبة" الماء واغتسلت بسرعة، ارتدت ملابسها البالية، سروال فقد لونه، وقميص مُرقع من خلف الظهر ثم حجاب قديم حصلت عليه من زوجة أحد المغتربين قبل ثلاثة أشهر، أما الحذاء، فقد كانت تغتسل حافية القدمين، لأنها لا تمتلك إلا حذاء وأحد، لذلك فقد كانت تخاف عليه من ملامسة الماء لكي لا يتمزق بسرعه، خرجت من الحمام، ثم اتجهت إلى غرفة نومها. كان الطفل يزحف على الأرض الترابيه ملطخ ببرازه، على ساقيه العاريتين، و"شميزه" القصير، ليس هذا فحسب، بل قد كان بدأ يأكل منه، اتجهت ناحيته بسرعة، رفعته متجنبة نجاسة البراز، ذهبت به إلى الحمام وعادت به بعد تنظيفه بشكل جيد.

أخرجت ثديها الأيمن للطفل لكي ترضعه، بدأ يرضع بشراهه، أما نجوى - أمه - فقد كانت تبتسم دون سبب، إذا نظر إليها أحدهم سيقول بأنها بدأت تفقد عقلها، تتجه نحو الجنون، إلا أنها كانت في معركة جنون أخرى، أصبح رأسها مرتع الألم والذكريات المريرة، لكنها تبتسم رغم وجعها الدفين، لكي تعوض حرمانها الأبدي ولو بخيال كان يوماً ما واقع الحياة. "أنتِ يا نجوى تستحقين أن ينظر لكِ أحدهم متباهيًا وكأنكِ كُل إنتصاراته" تذكرت هذه الجملة عندما قالها وائل أمامها في الطريق، بينما هي عائدةٌ من المدرسة بعد أذان الظهر، في ذلك الوقت الذي يتأخر فيه من يحب ليلتقي بمحبوبته، ذهب خيالها إلى الماضي، ليبحث عن ذلك الموقف، حصلت عليه، كان وائل يسير أمامها ثم التفت ناحيتها وقال : "يقولون بأني مجنون يا نجوى، أو على وشك الجنون، تخرجت من جامعة صنعاء العام الماضي، قسم الفيزياء، لكننا لم أحصل على وظيفة، ها أنا امامك عاطل عن العمل، عدتُ إلى الأرض، إلى حيث عانقت أصابعي هذه التربة الطاهره التي ينجسها صمتنا المطبق، وتدمرها وطنيتنا الاستغلالية، أنا احببتك يا نجوى، لا تصدقي من يقول عني كافر ومرتد عن دين الله، جميعهم يعبدون الله نفاق وزور، ونحن في مجتمع يجعلنا غرباء، مذنبين، مخطئين، وكأنهم وكلاء الله في الأرض، يعرفون قوة الإيمان وضعفه في قلوب الناس، ويصنفونهم إلى كفار ومؤمنين" شعرت بغصة في قلبها، كتمة في التنفس، صدرها بدأ يعلوا ويهبط بسرعة، حرارتها ارتفعت، تشعر بحرقة في الصدر، تركت حسان بجانبها على الفراش الملتصق بالتراب، ثم أسندت جسدها على الجدار المطلي بالنورة والطين.

سالت دمعة من عينها على الخد، عادت إلى الماضي مرة أخرى، تتذكر ذلك الموقف عندما أعترف لها وائل بحبه الذي كانت تلاحظه من قبل، هي كذلك، كانت تحبه، بل تعشقه حد الموت، وائل! كان مسرح ذكرياتها قبل النوم في الماضي، حلمها الذي تتمنى أن تحققه دون غيره، أمنيتها الوحيدة التي تتذكرها بينما هي تصلي، لكنها لم تتجرأ على مجاهرة حبها الذي كان يكبر يوماً بعد يوم، كان وائل ليس كغيره من الشباب، لم يسلم بعادات وتقاليد مجتمعه، انتقد الماضي، تخلى عنه، يناقش عقلاء القرية والمشائخ، يرعبهم بأفكاره التي يظن من يسمعها لأول وهلة بأنها أفكار كفر بحق الله، كانت نجوى تفكر بمثل أفكاره لكنها لم تتجرأ في المصارحة أو النقاش حول أي فكرة تخطر ببالها، فضلت الصمت خشية أن تقع في دائرة العنف والعار والخطيئة. كانت تتمنى أن يقول لها وائل بأنه يحبها، يفكر بها كما تفكر به، يبحث عنها كما نبحث عنه في الطرقات، أو المدرجات الزراعية، في الأودية، وعند البئر، أو على شجرة يقطع بعض أطرافها لبقرة أمه، كان وائل متواضع لا يكره أحد، أو يؤذي أحد، يجلب المياه من البئر بعد أن رفض أن تذهب والدته، يتسلق الأشجار ليجلب "طُعم" البقره، يحمل "طُعم" البقرة بعد أن تقلعه والدته من الحقل، يجلب الحطب لوالدته، حتى أنه كان يحلب البقرة ويلتقط مخلفاتها ثم يجهز الطعام بعض الأوقات.

حسان يزحف نحو التراب ونجوى مازالت وذكريات الماضي تعيش على أمل أحلام ذهبت دون عوده، قال لها وائل في نفس يوم اعترافه لها بالحب : "سمعت أنهم سوف يزوجونكِ على شوقي، ذلك المتطرف الذي يعتقد بأن النساء خُلقنّ لمتعة الرجل، من يخاف من ضحكة المرأة وصوتها، والدك رفضنا بحجة الكفر، لكنكِ يا نجوى تذهبين نحو النار، نحو القيود القاتلة للروح والعقل، أننا أحس بأن في داخلك ثورة تريد التمرد والعصيان على كل هذا الجهل والعبودية بحق النساء، لكنك تخافين مثلك مثل الآلاف من النساء في هذا المجتمع، تموت المرأة ويموت معها كل الأفكار والرؤى والانجازات التي يحتاجها الوطن، في عينيك بريق شك وحيرة وتساؤلات لكنكِ تساعدين المجتمع بقتل نفسك يا نجوى" كانت تسمع له في ذلك اليوم، وفي داخلها بكاء ونشيج حاد، كانت روحها تنزف كسحابة ماطرة، تشجعت ذلك اليوم واستغلت وحدتهم في الطريق ثم قالت له بعد إن قعدت على الطريق باكية بحسرة: خذني بعيداً عنهم يا وائل، خذني إليك، دعنا نهرب بعيداً عن هذه العيون القاتلة، أنت لا تعرف كم اكتوي بنيران هذا المجتمع، نار الخوف والشك، ونار العار والتسلط، اكتم حبك في داخلي لتتحول إلى سياط من نار تهوي بروحي إلى أغوار العذاب والمعاناة واليأس، حتى أفكاري لا استطيع أن أشارك والدي اقرب الناس إلي، يكفي أنني عورة وعيب، كومة من الذنوب والخطايا نحن النساء في هذا المجتمع، هكذا هم يؤمنون". تصلب وائل في مكانه، أنهارت قواه الجسديه، أسند نفسه بصخرة كبيرة خارج الطريق، فكر كثيراً، ثم قال لها : "صحيح بأننا اعتقد بأن الحب مذهب إنساني بل ودين الرب، لكننا لن أستغل ضعفك وحبك يا نجوى، لن نهرب خائفين، لأن الحب لا يولد الخوف، بل القوة، من يحب لا يطيق الضعف والعجز، بل يتمرد، لا يأبه بالعواقب، لأنه تجاوز فضاءات الله في الحب، دعينا نصرخ ملئ هذه الأرض، ليسمع الجميع، بأننا نحب بعضنا ونريد الزواج، أو نموت بشرف". اندفعت ناحيته ذلك اليوم، عانقته لتحصل على الخلود، دمعت على صدره، حوطها بذراعيه كأنه كهف يحضن كنزٌ ثمين.

عادت نجوى إلى واقعها، تنظر يمنة ويسرة باحثةٌ عن حسان، لكنها لم تجده، نهضت بسرعة ثم اتجهت إلى الخارج لتجده في المطبخ وقد عبث بزيت الطبخ، صبه على الأرض وعلى ثيابه، تركت بالأمس علبة الزيت مفتوحة بدون غطاء لكنها اسرفته ضرباً مبرحاً، لم ترحم ضعفه وطفولته، أو يبدوا أنها كانت تنتقم من ماضيها بطريقة أخرى، تخرج جم غضبها بأسلوبها الخاص، لكن حسان كان هو المتضرر الأكبر، قالت بغضب وهي تغسل لحسان للمرة الثانية : المنظمة لن تصرف الحالة الإغاثية إلا بعد شهر! من أين نجلب المال لنشتري زيت للطعام؟. بدأت ترضعه مرة أخرى، وفجأة غزا الشرود تفكيرها لتذهب إلى وحل ذكرياتها الذي لن تستطيع أن تتخلص منه حتى في أوقات الصلاة بعض الأيام تنتبه وهي تقرأ رسالة وائل بدل الفاتحه، أو تقول "واااائل" بدل "أمين".

في يوم اعتراف وائل لها بالحب، عندما حضنها في الطريق بجانب الصخرة، بعد إن عادت إلى المنزل، تفاجأت بضجيج في منزلهم، سألت أختها الصغرى ماهو الحدث الذي حصل واجابتها بأنهم قادمون لطلب يدها للزواج، كادت أن تسقط على الأرض، الراحة لا تدوم، ظنت بأنها ستظل تحمل طمأنينة الحضن أيام كثيرة، لكنها غرقت في البؤس في تلك اللحظة، تناثرت كسحابة شتاء، رفعت حجابها من الأمام وبدأت تستنشق رائحته بعمق وشهقة كبيره، تشم رائحة وائل العالقة على ثيابها. وافق والدها على الخطيب دون استشارتها، ثم أمرها أن تتجهز للرؤية الشرعية، كانت تبكي، لكن أمها زغردت قائلة : هكذا كل الفتيات، حتى أني بكيت عندما تقدم لي أبوك. ظهر شوقي بلحيته السوداء، وفي يده مسبحة صغيره، تمتم بكلمات غير مفهومة، ربما دعاء، نظر نحوها وهي ترتجف، تنظر نحو الأسفل، رفعت والدتها رأسها بقوه، لكنها لم تنظر ناحية شوقي البته، كانت تغض الطرف عنه لتنظر إلى روحها تنزف ألماً على بداية مسيرة فُقدٍ طويلة ستلازمها حتى القبر.

نام حسان في حضنها، وضعته على الفراش بعد إن عادت ثديها إلى الداخل، مددت جسدها بجانبه، وضعت يدها اليسرى تحت رأسها، نامت على شقها الأيسر، لم تعد الغداء في ذلك اليوم على عكس الأيام السابقة التي يأتي آذان الظهر وقد تناولت الطعام، فقدت الشهيه، كانت لا تريد أن تقطع الطريق الى الماضي، حيث وجدت نفسها مع وائل، وحيث فقدتها مع شوقي، تبكي بصمت، جسدها يهتز، ولكنها تحاول أن تبدوا هادئه لكي لا يستيقظ حسان، عادت إلى الذكريات مرة أخرى، قالت مخاطبةً نفسها: تستحقين كل القسوة يا نجوى، منعك والدك من الدراسة في ذلك اليوم دون أن تنطقي بحرف، كنتِ تكرهين شوقي يا نجوى لكنك لم تتجرأينٌ على الرفض، لماذا صمتي ذلك اليوم، هل شوقك لوائل جعلك ترمين بنفسك إلى أي حضن ليخمد ثورة الإلتحام مع الجنس الآخر؟ أنت ضعيفه، يتسلط الجميع عليك بدافع المحبة وتمني الخير لك، يفرض الجميع نفسه عليك دون أن تحاولي إتخاذ قرار لنفسك أنتِ. صمتت بعد عتاب أشعل في صدرها حربٍ ضروس بين ماضي أليم وحاضر مؤلم أكثر.

تزوجت نجوى على شوقي قبل سبع سنوات، بالتحديد عندما سقطت صنعاء في يد الانقلابيين، دخل عليها بهمجية كما دخل الانقلابيين صنعاء، تتذكر أول يوم لها وتبكي بحرقة، كيف نزع منها الملابس بوحشية، مثل ما نزع الانقلابيين ثياب الجمال عن صنعاء بوحشية أكبر، وكيف دفعها ناحية الفراش ثم رفع ساقيها الناعمتين، دون أن يحدثها بكلمة لطيفة، أو يهديها قبلة طرية عذبه تفتح شهيتها، أو يتحدث معها بهمس لكي يزرع في نفسها الأمان، لكنه كان يشبه ثور منصور غالب، الذي يركب كل أبقار القريه، دون قُبل أو حديث أو ملاطفة ومداعبة مثيره، بعد إن رفع ساقيها وقضيبه المنتصب كسيف جاهلي يكاد يتفجر من شدة الاحمرار، غرسه في داخلها دون مبالاة بعمرها الذي لا يتجاوز السادسة عشرة، وذهب يمتطيها بكل قوة، تذكرت كيف كانت تتألم وكأن سيوف العالم تطعنها دون رحمه، لعنته، عضت إصبع يده الصغيره، لطمته، توسلت له، لكن شبقه الجنسي كان أكثر دونيه، شوقي المطوع، الذي يعرفه الجميع بأنه زاهد وعابد تحول إلى حيوان يلبي رغبة جسده الاناني، أصيبت بنزيف حاد، اسعفها والد شوقي الى عيادة طبية في القرية المجاورة، أخبرتها الطبيبة أنها تحتاج إلى عملية جراحية لأن فرجها توسع بشكل مرعب. كرهت نجوى شوقي ذلك اليوم أكثر من السابق، هربت إلى بيت والدها أكثر من مره، لكن والدها كان يرجعها مع شوقي بعد أن يقول : "المرأة ماله إلا الزوج أو القبر"، كم تلعن والدها عندما تتذكره وهو يقول تلك الجملة موحياً بأن أياماً من العذاب سوف تحل على روحها الطفولية، ولأنها كانت  صغيرة في السن، لم تكن تمتلك تلك الرغبة الجنسية الكافية لإكمال الجماع بسلام، كان وجعها أعظم من الراحة التي تحصل عليها، كلما ذكرت أول يوم وكمية الرعب الذي عانتهُ تقول : أني وصنعاء فُض غشاء بكارتنا بيوم واحد، لم يكن لدي حول ولا قوة للدفاع عن نفسي، مثل صنعاء كانت راضخةٌ بكل صمت وذل.

سيطر الانقلابيين على الدولة، ومفاصلها، التهموا الحياة من أفواه الناس، سرقوا الفرح من أغصان الشذاب والريحان، بدأ الشعب ينتفض ويهب للمقاومة، انتفضت تعز، وتحررت الضالع ثم عدن، كانت المقاومة في البداية لا تعرف سوى الأرض وهوية الإنسان التي تمتد إلى جذور التاريخ، لكن بعد إن أصبحت سياسة دينيه تواجه انقلاب سياسي ديني فقدت المقاومة بهجتها، استولى الحزب السياسي الديني على الساحة، كان شوقي ضمن ذلك الحزب، يسمى الإخوان، ترك نجوى بعد ست سنوات من تاريخ الزواج وفي أحشائها حسان، قال لها قبل أن يسافر مع المندوب الذي زكاهُ إلى قيادتهم في تعز : "نحن ندافع عن الدين، عن الله، أتمنى أن انال الشهادة في سبيله، هناك حوريات الجنة، خمر الجنة، الولدان المخلدون، الارايك والسراير والطلح المنضود، أدعي لي يا نجوى بالتوفيق، توفيق الفوز بالشهادة في سبيل الله". ذهب دون أن يسلم عليها، أو يودعها وداع يليق بشرف الإرتباط الروحي، لكنها وبصراحة عندما طلب منها أن تدعي له بالفوز بالشهادة  في سبيل الله قالت في نفسها :سرحه لا رجعه، جعلك تفوز بكل الشهادات حق سبيل الله. كانت تتمني له الموت والفناء. بالنسبة لها! موته أفضل بكثير من وجوده، هكذا هي مرتاحة بدون قيوده، كيف لا تتمني له الموت وقد كان يضربها دون سبب. بعد سفره بشهرين ورد نبأ استشهاده في تعز، وسط المدينة، زغردت، ابتهجت، حصلت على بشارة السعادة من السماء، الجميع يبكي إلا نجوى كانت ضاحكة عليها بشاشة عميقه، لكنها حزنت بعض الشئ عندما أخبرها أحدهم بأن شوقي قبل أن يستشهد كان قد تغير تماماً، أصبح يفكر بطريقة أخرى، تمرد على جماعته. ثم قال لها : يقال بأنهم تخلصوا منه لأنه كان قد قرر أن يعود إلى البلاد، ويتجنب الحرب الغامضة الذي يعتقد كلا الطرفين بأنهم على حق، يقتلون الفقراء، وهم يعيشون في رفاهية الجنة.

نهضت من الفراش، ولملمت ساقيها ثم حضنتهم إلى صدرها لتصبح مثل جذع شجرة قديمة، قالت بهمس لكي لا يستيقظ حسان : الجميع يغري أصحابه بالحور العين، الأعداء يوعدون مقاتليهم بالجنة، وأعداء الأعداء يوعدون مقاتليهم كذلك بالجنة، جميعهم يقولون بأنهم الحق، وينصرون الحق، يدافعون عن الله، الجميع يقول هذا الكلام، الجميع يدعي بأنه يحب الوطن، يتشدق بمصطلحات الوطنية وحب الأرض، بالحرية والعدالة، لكن الجميع كاذبون، صدق وائل حينما لعن الجميع وقال: غايتهم واحده، أين الذين يدافعون عن هوية الأرض التي وجدت قبل كل الأديان، هل هناك من أحرار يدافعون عن الهوية والذات اليمنية فقط، دون تدخل الدين الذي يزرع الطائفية والمذهبية والتفرقة ويطيل أمد الحرب، لماذا ننسب هويتنا العريقة إلى الدين الدخيل علينا، إذا كان العدو يقتلنا بإسم الدين، علينا أن لا نقتل العدو بإسم الدين أيضاً لأننا سنظل ندور في نفس الدائرة دون الحصول على مخرج، سيظل الجميع يتوهم بأنهم الحق الإلهي، بل والطرفين يمتلكون دلائل دينيه تبرئ أفعالهم، وتثبت صدق أقوالهم. مسحت دموعها واضافت : الحور العين في الجنة، عملهن الوحيد هو المتعة، حتي التصور الآخروي للمرأة قائم على الجنس واللذة، يضحي أحدهم بنفسه وهو يتصور سبعين حورية بجمال يسلب العقول، هذه أفكار تجعل دوامة الحرب مستمرة، لن تنتهي مادام المقاتل يعتقد بأن في قتله جنة ونساء حور عين وخمر وظل ممدود، وفي تفوقه على العدو نصر، أو هزيمته ابتلاء، لن تنتهي الحرب في هذه البلاد التي جعلت الناس يصنعون أرباب من أنفسهم ليستغلوا الضعفاء. تلعثمت ثم تساءلت فجأة : ما دخل الوطن بحالتي هذه، أنني نجوى، الفتاة التي ذبحها المجتمع والعائلة والزوج، خسرت وائل الذي تزوج وأصبح راعياً في الجبل، يعيش حياته مجهول بهدوء بعد إن أنكره الجميع، وخسرت زوجي الذي يقال بأنه عرف الحقيقة في اخر رمق لكنهم قتلوه، أنهم يخافون من الحقيقة إلى الحد الذي يجعلهم يتخلصون من آبائهم.

سمعت لضميرها مرة أخرى : أنت في التاسعة عشرة من عمركِ يا نجوى، انظري كيف مسكنك، منزل حقير لا يستطيع مقاومة المطر الخفيف، أتذكرينٌ كيف غرق المنزل قبل ثلاثة أيام، عندما نمتِ قاعدة وحسان في حضنك، ذهب شوقي الى الحور، أنه الآن يمارس وحشيته المفضلة هناك، الحورية لا تمل من الجنس، سيجدها في اي وقت يريد، ولا تنسي بأنه يمتلك سبعين، وماذا عنكِ أنت يا نجوى؟ هل ستظلين بهذا الشكل؟ يأكل الحرمان عمرك، تلتهمك اللوعة وأنتِ تنظرين الى وائل وهو قاعد مع زوجته، يدمرك الحسد والحسرة؟ إذا ظلت حالتك بهذه الطريقة، سوف تتجهين إلى الجنون، مارسي حياتك بشغف، بحرية، استغلي وحدتك هنا، لما لا تكوني حورية في الدنيا، لا يوجد لكنّ عمل في الآخرة، قبل ثلاث سنوات كنت لا تطيقين الجنس لأنك صغيره، أما الآن؛ فأنتِ تموتين شوقاً ولهفة، تتقلبين على الفراش، تعدين الليالي، تتمنين يداً واحده تمرر نفسها على جسدك الذي يناديك، لا تفكري بوائل يا نجوى، عندما ذهبت إلى منزله قبل ثلاث أيام بينما زوجته في زيارة لبيت والدها، كنتِ متلفهة لعناق وائل من أجل إعادة رائحته إلى صدرك مرة أخرى، لكن خوفك مازال يسيطر عليك، أقتربتِ منه ولكنه أبتعد، اتعتقدين يا نجوى بأن وائل سيكون لقمة سهلة لتشبعي تعاستك، إنكِ تدفعين ضريبة السكوت والذل لأيام كنتِ قادرة على إتخاذ القرار المناسب، وائل يقدس الحب، لا يمكنه أن ينجسه برعشة عابرة وشبق زائل، الحب بالنسبة لوائل صلاة سرمدية، مناجاة أبدية، تضرعات نبوية يا نجوى، يطوف حوله كأنه كعبته الطاهره، لذلك لا تحاولين أن تغريه ببشاشه نهديكِ، أو نغمة صوتكِ، أو سحر تملقك الآن. ضربت نجوى برأسها على جدار الغرفه، انتحبت، كانت تعوي مثل ذئب جائع، تنادي وائل بهمس، تناجيه بحسرة حزينة، تلعن ضعفها، حاصرها الحزن من كل جانب، انهكها الإنتظار المرير، قررت أن تكون حورية في الدنيا، أن تحول منزلها الصغير إلى جنة مليئة بالذة والتيه والضياع. قالت واليأس ينتشر في ما تبقى لها من عوالم الطمأنينة: قتلت نفسي بالصمت والذل، إلى جانب والدي، والمجتمع اللعين، لن اندم على أي خطيئة سوف اقترفها الآن، لقد كنت خطيئة منذو زمن، من أول لحظة لي في الدنيا، عندما حزن الجميع على والدتي، وتمنوا أن أكون والد. تذكرت فجأة العرض الذي قدمه المندوب الذي أخذ زوجها للقتال، عرض للزواج منها، أخبرها بأنه مستعد أن يتزوج عليها، كما أنه يقبل أن تأخذ صغيرها حسان معها وتربيه. لكنها قالت : لم يكتفي من أخذ شوقي الى الحرب، قُتل شوقي وبقي هو لكي يتزوجني، هذا نفاق ومكر وخداع، عمره يتجاوز الستين عاماً ويريد أن يتزوج من فتاة بعمر أبنته، ثم أنه قد تزوج خمس وطلق اثنتين منهنٌ، ألم يشبع هذا الحيوان.

خرجت من الغرفة بينما حسان نائمٌ على الفراش، الأجواء معتمه، السحابة سوداء، محملة بالماء والبرد، زمجر صوت الرعد، أضواء البرق انتشرت في الارجاء، بينما نجوى في فناء منزلها الصغير، تنظر ناحية القرية، المطر بدأ بالهطول بغزارة، جلست وسط المطر، تبلل جسدها الحار بماء الرب البارد، أزدادت غزارة المطر، أكتست الطبيعة ببياض ثلجي، أتصلت الأرض بالسماء بخيوط الماء الرقيقة، بداء الماء يتدفق في السواقي متجهاً إلى الحقول، (المشارب الجبلية) تتدفق بغزارة، يسحب الماء الأحجار الكبيرة معه من وسط الجبال الى الاسفل، بدأ البعض يصيح بخوف تضرعٌ لله، يطلب منه مطر رحمة لا مطر عذاب، نجوى مازالت مستسلمة للسماء، نظرت نحو الأسفل باتجاه الوادي، رأت وائل يعيد ساقية حقله إلى مسارها، بكى حسان من الداخل، تجاهلت صوت بكائه، وازداد الحنين في دخلها بسبب الجوء الممطر ثم قالت وهي تلعق قطرات الماء من شفتيها : هذا هو وائل، من يتحدث عن ذكائه الجميع، كافح في دراسته الجامعية، حصل على الترتيب الأول، قدم أبحاث علمية مهمه، فكر بطريقته الخاصة، لم يتبع أحد، لكنهم تجاهلوه، كشر الجميع في وجهه، طرده الجميع من رحمة الله، ها هو عاد إلى الأرض التي نبت منها، ليجعلني أعرف قيمة نفسي وقيمة المرأة، أحببته لكنني كنت عورة لم استطيع أن أخبر أحد، في هذه الأرض، قتل المرأة أعظم مما تقول بأنها أحبت إنسان، وائل الذي يقضي أوقاته في القراءة وزرع الأرض، المفكر الذي يقال عنه مرتد، الوطن لا يقبل أمثالك يا وائل، لا يفتح لهم الباب، يغلق أمامهم السُبل، يجعلهم مجانين، لكنك أقوى من الجنون نفسه، بحثت عن الحقيقة، وها أنت تعبدها. صاح حسان مرة أخرى، نهضت وقميصها ملتصق على جسدها بشكل مثير ومُفتن، دخلت الى الغرفة لتجدها قد تحولت إلى بحيرة صغيره، الفراش تبلل، حسان يبكي وحول فمه بقايا طين. 

أتى الليل وعليه شبح اسود مخيف، زادت لوعتها، لكنها سرعان ما وجدت نفسها تحت قوة جسد يمارس طقوس الفناء، فناء الروح في الامتزاج والمتعة، وجدته يغمرها بلذة تنسيها المتاعب والأيام وابحرت معه لكي تغرق لكنها تتنفس. 

الفراش يشاهد مسرحية أرواح تغيب في الفناء، وحسان يأكل من تراب الغرفة الممتلئة بحرارة التقاء الكبت والفقد والحنين. لم يضحك حسان البتة إلا عندما كان يشاهد تلك المسرحية، مسرحية بطلها الوحيد والدته.

تمت

إبراهيم الحمزي
2021/7/20







Share To: