تسارع الأحدث في تونس ذكرني بمقال كنت قد قرأته وأنا شاب منتصف التسعينيات للكاتب الجزائري سعد بوعقبة عن "اليمن السعيد" الذي كان بالكاد قد استعاد وحدته، قبل أن تطاله مؤامرات الكائدين ويتحول لطاحونة بشرية دموية تدميرية أتت وقتها على الأخضر واليابس، ويومها كان بوعقبة يلقي عنه عبر ركنه الشهير بصحيفة الشروق العربي، من خلال والتيمن والتغني بتجربة اليمن، بأثقال وجع مأساة الحرب الأهلية الفتاكة التي دُفع إلى وهدتها الجزائريون دفعا من قبل متهورين عسكر، استولوا على مقاعد ومقاليد القرار بليل بإيعاز من الخارج، يرفض الكثير من المتعالين المتعالمين ممن يصفون أنفسهم بالنخب الشاهدة على العصر الاعتراف بحقيقته، حتى بعد فشل مسعى العسكر الانقلابي لسنة 1992 الذي أكته ثورة الحراك في 2019، فما الذي يجعل صور الخيبة الديمقراطية تتحد وتتوحد في المشهد العربي؟

لم يعد خافيا على أحد، من خلال تراكم تجربة التدافع السياسي في العالم العربي، الدور، ليس فقط السلبي الذي باتت تلعبه من يفترض انها الطلائع التاريخية للمجتمع، ونعني بها النخب، بل القاتل والمُركس في حمأة مربعات التخلف الأولى، كلما أراد شعب من هذا الفضاء المتصحر في التاريخ قبل الجغرافيا، أن يُنمذج تجربته ويغدو قدوة لأخوته في التغيير والانتقال الحضاري، وهذا عبر مستويين من الاجرام، إما بالسكوت عن الانقلابات خشية البطش، أو الاصطفاف معها تصفية لحسابات ذاتية وايديلوجية ومصلحية مع قوى التدافع الفكري والسياسي الموجودة في الساحة.

عهدنا في المجتمعات ذات الطلائعية النخبية الحقيقية، أن تكون هاته الأخيرة في صدارة الذود والدفاع عن المكتسب الديمقراطي والحقوقي كلما تهدده المس من البوليس السياسي أو الجرافة العسكرية، بالانتصاب في سوح الاعتراض الطبيعية منها والمخيالية، بالقلم والقدم، مهما كان طبيعة رؤيتها وعلاقتها مع التيارات السياسية المتدافعة والمتصارعة في الاطار السلمي الذي يضبطه الميكانزيم القانوني والمؤسسي للدولة.

فلم يكن مثلا لا حصرا، ترامب أقل سوء من بوش الابن الذي ثارت على سياسته في العراق كل النخب الفنية والأدبية والفكرية، لكن لا أحد طالب بالخروج عن آليات التسيير الديمقراطي للمؤسسات والاطاحة بهما ولو دستوريا، فقط لأنها أعطايا صورة غير صحيحة وغير مشرفة، للمبدأ البراغماتي الأمريكي في قيادة البلاد دبلوماسيا، لأيمانهم بأن مفعول الزمن (نهاية العهدة) كفيل بأن تمح ما سيخلفه هؤلاء من عار.

بينما نخبنا العربية التي يفترض فيها أن تكون في طليعة التأسيس النموذجي للديمقراطية وخاصيتها التداولية، قبل أن تستحيل فيما بعد للذرع الأول الحارس والحريص على بقاء وأزلية هذا التأسيس، تُرى متلاعبة بمقتضيات هاته الديمقراطية، تفرح لها حين تصب في مراميها ومصالحها المادية الشخصية والايديلوجية، وترفضها إن جاءت عكس ذلك، مما أسهم في ارتكاس التجربة الديمقراطية العربية واستحال بروز الرأس النموذجي لها سواء في المشرق أو في المغرب من تحت طوفان الاستبداد والفساد.

ألا تعي هاته النخب أنها بهكذا موقف غير مشرف ولا منصف مع شعوبها الباحثة عن ذاتها في مخاض التاريخ، إنما تخون ضميرها وأمتها مهما زعمت وأدعت العكس بالقول أنها تحول دون خيانة الديمقراطية ممن يكفرها (الإسلاميون) أو يكسرها (الانتهازيون)؟

سمعت مرة الباحث التونسي المغترب بفرنسا عبد الوهاب مؤدب يتحدث بهذا الخصوص بشكل صادم مليء بالاسفاف وهو يُحاجج المفكر الإسلامي طارق الرمضان بشأن فضيلة العلمنة ونبذ الاسلمة، إلى حد وصل به الأمر أن أثنى على الديكتاتورية البورقيبية بالقول "أن التحديث والعلمنة يحتاجان للانبساط في المجتمع إلى مثل تلك الديكتاتورية البورقيبية" في تكريس للوعي القطيعي (من القطيع) الذي يقتاد ولا يقود الشعوب، في الوقت الذي كان يتوجب فيه تكريس الفكر القطائعي الذي يستأصل جذور البدايات الوطنية المريضة، ويتيح للشجرة المجتمعية أن تمتد بكل أغصانها وتظل بكل ظلالها على المجتمع وأبناء الوطن الواحد، مهما اختلفت أعراقهم، دياناتهم ولغاتهم.

وفي هذا السياق النقدي، لم يرق لي مطلقا ما صدح وصدع به المثقف التونسي والأستاذ في جامعة السوربون محمد هنيد في آخر مساهماته في برنامج الاتجاه المعاكس حين حصر الخيبة الثورية العربية في مشاكل العرب الذاتية، محملا إياها أوزار ما وقع للاوطان من سحق ومحق تؤكد كل الدلائل أن للخارج اليد الطولى فيها، من خلال توظيف نخب معادية ومتعالية على الشعوب واختياراتها ومكوناتها، مع كل الاحترام الذي أمنه لهذا الباحث ذي المواقف المشرفة قبل وأثناء وبعد الربيع العربي في موجتيه الأولى والثانية، لكن يبدو وأن بوصلة الوعي لفهم مجرى ومسرى الأحداث في عالمنا العربي المليء بالأسرار ليس فقط على مستوى كهوفه التاريخية بالجيزة الفرعونية وصحارى العرب الأخرى، بل بأراضي المستقبل، وما احوجنا للباحثين والمنقبين على أثار المستقبل المخبأة والمدفونة للعرب في صحارى حقولهم وعقولهم، حتى يدركوا ويتداركوا أنفسهم قبل الوقوع في المطب الحضاري السحيق.

ما حدث في تونس من انقلاب على الديمقراطية كآلية فصل ووصل سياسي، وموقف النخب والكتاب الصامت الصادم، ما ترك الشعب من دون غطاء فوقي، كما الجيش البرية في المعرك المصيرية حين تحرم من غطاء جوي تغدو بسببه عرضة للطحن من العدو، يجعلنا نتأكد من أن مشكلة الانتقال الحضاري التي يعانيها علمنا العربي لا تكمن في خفة وعي الشعب بل استخفاف وعي النخب بالديمقراطية وبالشعب ذاته، نخب تريد نموذجا شعبيا خاصا وخالصا لها، ذلك الذي ترسمه من خيالها المتشبع بصور الآخر تماما كما هو حال العشق الافتراضي الذي تقع في أتونه ومطباته نساء سكن مساكن بمواقع التواصل الاجتماعي بعدما ضاقت بهن مساكن الواقع المجتمعي.



بشير عمري

كاتب صحفي جزائري










Share To: