التمييز بين مقامات تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم (1):
 
تختلف مقامات تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم في الدلالة على التشريع؛ من حيث الإلزام وعدمه.   

 ولذلك يجب التمييز بين ما صدر منه صلى الله عليه وسلم على سبيل التبليغ والتشريع العام، والفتوى، وهذا هو الغالب على تصرفاته صلى الله عليه وسلم، وبين ما صدر منه باعتبار آخر.

أخرج الشيخان عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: 

دَخَلَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: 
يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، لَا يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ».

وقد اختلف العلماء :

هل هذا التصرف من باب الفتوى، فتكون عامة لكل من كانت حالتها مشابهة، ولجواز التحايل على أخذ الحق لمن لا يستطيع الحصول على حقه؟ أم أن هذا من باب القضاء؛ فلا يجوز ذلك إلا بحكم القاضي؟

وترجم البخاري فقال:"باب القضاء على الغائب" :

ولكن الراجح أن ذلك على سبيل الفتوى؛ لأنه لا قضاء قبل التبين من صحة الدعوى، والاستماع إلى حجة الطرف المدعو عليه.

ويجب التمييز بين ما صدر منه صلى الله عليه وسلم على سبيل التبلغ والتشريع الدائم، وما صدر منه باعتباره إماما حاكما للأمة، وتصرفاته هنا تكون من باب السياسة الشرعية، وهي قائمة على مراعاة مصالح الأمة، وهذه فيها من المرونة ما فيها، وفق مستجدات كل عصر ومصر، في ضوء كليات الإسلام ومقاصده، فما صدر منه صلى الله عليه وسلم بهذا الاعتبار ليس ملزما للأمة في شكله، ولكنه ملزم في جوهره ومقاصده. مع مراعاة أن ما كان من تصرفه صلى الله عليه وسلم باعتباره إماما فلا يجوز لأحد الإقدام عليه إلا بإذن الإمام.

وعلى سبيل المثال:

(1) تمليك الأرض الموات لمن أحياها:

أخرج البخاري في صحيحه :

 عن عروة، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 «مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ» .

قَالَ عُرْوَةُ: 

«قَضَى بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خِلاَفَتِهِ».
 
فمن اعتبر أن تصرفه هذا من باب الفتوى والتشريع الدائم أباح تمليك الأرض الموات لمن أحياها، ولو بغير إذن الإمام.

 وإلى ذلك ذهب الشافعية ومن وافقهم.

ومن اعتبر أن هذا من باب التصرف بالإمامة والسياسة الشرعية لا يجيز تملك أرض الموات إلا بموافقة الإمام، وإلى ذلك ذهب الحنفية.

(2) تمليك سلب المقتول لقاتله في المعركة:

أخرج الشيخان:

 عن أبي قتادة رضي الله عنه، قال: 
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ حُنَيْنٍ: 

«مَنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى قَتِيلٍ قَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبُهُ».

وأخرج أبو داود بسن صحيح، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ:

 قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ يَعْنِي يَوْمَ حُنَيْنٍ:

 «مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ».
 فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلًا وَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ، وَلَقِيَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ وَمَعَهَا خِنْجَرٌ فَقَالَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا هَذَا مَعَكِ؟ قَالَتْ: أَرَدْتُ وَاللَّهِ إِنْ دَنَا مِنِّي بَعْضُهُمْ أَبْعَجُ بِهِ بَطْنَهُ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ أَبُو طَلْحَةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ» .

قَالَ أَبُو دَاوُدَ: «أَرَدْنَا بِهَذَا الْخِنْجَرَ وَكَانَ سِلَاحَ الْعَجَمِ يَوْمَئِذٍ الْخِنْجَرُ».

والسلب هو ما على القتيل، وما معه من ثياب، وسلاح، ومركب، وغير ذلك. 

فهل تصرف النبي صلى الله عليه وسلم هنا بتمليك القاتل سلب المقتول باعتباره مبلغا عن الله تعالى؛ فيكون هذا الحكم دائما عاما؟

 أم أنه تصرف باعتباره إماما، وفعل ذلك تشجيعا وتحضيضا على القتال، فلا يكون لحكمه هذا صفة العموم والتشريع الدائم الملزم، وبالتالي لا يجوز تمليك السلب إلا بإذن الإمام؟ 

والظاهر لي أنه من باب السياسة الشرعية، وبالتالي لا يكون هذا حكما عاما ملزما للأمة، وخصوصا في هذا العصر الذي صار فيه المجاهد يُجهَّزُ تجهيزا كاملا على نفقة الدولة؛ فالدولة تدربه وتسلحه، وتنفق عليه، وتكفل زوجته وأولاده إذا قُتل، بخلاف ما إذا كان المجاهد يجهز نفسه من ماله الخاص.






Share To: