كنا قد تكلمنا في مقال سابق عن الجروح النفسية التي كانت أساس قيام أمم من القهر والاذلال الاستعماري واستحالت في ضميرها الوطني إلى محفز للتحدي، مكنها في منتهى المطاف، من اكتساح قوى الاستعمار في معارك التاريخ الناعمة، معارك الاقتصاد وتكنولوجية الاتصال، ورأينا كيف أن الصين كانت النموذج الانجح والاوضح في إعمال الجرح النفسي لقلب معادلة التاريخ.
واليوم سنحاول أن نتلمس أسباب عدم قدرة العرب على استثارة الجرح الاستعماري الذي لا يزال يعتمل ويتقد فيها لتحقيق قيام حضاري يعيد للإنسان العربي كرامته ولثقافته مجدها الذي خفت نوره مذ اختلت معادلة العقل والروح في معركة التاريخ، وانقلب مبدأ الرسالية الإنسانية من كونه فاعلية في التاريخ، إلى مجرد استعراض لكينونة محنطة في أقاصيص الحضارة، والتغني بأعظم اكتشاف عربي للإنسانية وهو الصفر (0).
فالملاحظ من تجربة القُطرية العربية المرة، أنه ثمة عوامل عدة أفشلت كل محاولة للشعور بالجرح الاستعماري رغم نزيفه المتواصل، وهذا بسبب فقدان معنى الكينونة الذاتية والعناصر التي تسهم في انتفاء هذا المعنى، فعلى سبيل المثال، قاوم الجزائريون الاستعمار 132 سنة على مراحل وثورات شعبية ثم وطنية من أجل تحرير البلد، لكن معنى البلد (الدولة، الأمة الوطن) في سياق تطور مفاهيم السياسة والجغرافيا السياسية والتاريخية، كان غائبا بسبب التفقير والتجهيل الذي مارسه الاستعمار، كسياسية لاستفراغ الأمم من رصيدها في الوع الوجودي بالذات، ومن ثم ملؤها بأضاليله وأكاذيبه العلماوية والفكرية حتى.
من هنا تجلى كره الجزائري للمستعمر مقتصرا على خصائصه الاثنية كرجل أبيض يدوس بأقدامه الملوثة بوحل الظلم أرضه ويدوس عرضه، وعدا الوعي بلون المستعمر (الأبيض) لم يحصل الوعي بالفكر الاستعماري لهذا الرجل، فقبل لغته وحضارته، ونمطه الاجتماعي، وبالتالي قبل أن يمضي طوعا هاته المرة خلفه في التاريخ.
معنى هذا ان الارتباط الطوعي بالاستعمار، يعكس حالة اللا شعور الخطير بالجرح النفسي التاريخي الذي يحفز في الضمير كل رغبات وقدرات التحدي، وعندما قال بعض قادة الثورة التحريرية بعدم جدوى استئصال لسان الاستعمار (اللغة الفرنسية) بل واعتبارها غنيمة حرب، كانوا قد أسهموا في إطفاء الألم ـ الشعلة، في نفسية الشعب فراح مع سنوات الاستقلال يزيد من حدة وحجم ارتباطه بهذه اللغة بوصفها أداة تجميل ومكياج ثقافي يتزين بها الفرد في الشوارع بالتحدث بها وقراءتها من خلال الجرائد والكتب فيبدو جميلا، مثقفا وابن عصره !
الخضوع الطوعي أو التلقائي لإملاء الاستعمار وفكره هو مدسوس في الضمير الوطني للعربي، لأن القطرية التي خضع لها ككيان جديد ليست تقسيما جغرافيا فحسب بل هو في الأساس تقسيم أو بتر تاريخي، يحيل بالضرورة إلى طرح أسئلة حول الذات، من هنا برزت أزمة الهوية المتجاوزة لانتماء الحضاري الكبير، فانشطر التاريخ ومعه انشطرت الهوية فغدت هويات، وما عاد بالوسع الالتفاف على معنى موحد للذات.
هكذا تنضيب للضمير من عوامل القوة والتحدي الحضاري، لم يكن له من المآلات الخطيرة، أكثر من إطفاء جذوة الشعور بكينونة الذات، واركاس الأمة في حمأة التبعية بزعم أنها غير ذات تاريخ فاعل وكل محصولها وحضورها في هذا التاريخ أنها كانت موجودة في الماضي، ويستحيل أن توجد أو تولد من ذاتها مجددا بل عليها أن تمضي في سياق ما يمليه الفكر الاستعماري اليوم المجسد في برامج التعليم والمعرفة قبل الاقتصاد الأمور الحربية.
شرق آسيا كانوا أبلغ الأمم في تفعيل الجرح النفسي كوسيلة تحدي للاستعمار الأبيض، لأنهم أدركوا السر في الأمر وهو العض على أساسات الكينونة الخاصة، هوشي مين كان يعتبر اللغة الفيتنامية أفتك من سلاح المقاومة للاستعمار والاستكبار العالمي، الصينيون خاضوا حروبا أهلية ثقافية حاسمة مكنتهم من أن يستقلوا فعليا عن الفكر الاستعماري وبالتالي ظلوا مستشعرين الجرح النفسي لحرب العفيون، كوريا الجنوبية جرمت الحديث باللغة محتلهم الياباني حتى في الأماكن العامة والشوارع، في بلد ينتمي للعصبة الديمقراطية، لكن عندما يتعلق الأمر بثوابت ومرتكزات الذات، لا جدوى من حضور الديمقراطية.
فالهوم المسوق للعربي في وجوده القُطري اليوم هو أنه بفضل هجمة نابليون وحدها على مصر اكتشف المعرفة ورأى نور الحضارة ! وبفضل حركة الاستعمار وزحفه على جغرافية العرب، وصلت الحداثة، وتراجعت تقلصت رقعة الظلمات القروسطية، وبالتالي حسب هذا العربي من الوجود، أن يصلي ويغني بلغته، أما أن يحقق بها وجوده الذاتي في مسرح معركة التدافع الحضاري وصراعه الدولي، فلا يمكنه ذلك لأنها ثقافة واللغة غير تاريخيين، هكذا تعمل آلية التخدير للجسد العربي للحيلولة دون استشعار ألم جروح الصراع والاستعمار، وبالتالي غياب رغبة ومبادرة التحدي.
حالة من التخدير رهيبة وغريبة أخضع إليها الضمير العربي فستحال عليه إدراك نفسه، فكيف له أن يحقق إرادة التحدي المفضية إلى اقتلاع الاستعمار من الخيال الذي لا يزال يسكنه.
بشير عمري
كاتب جزائري
Post A Comment: