امتلأت فضاءات المدينة بأنغام سيارات الإسعاف، وباتت ذبذباتها مألوفة، تحس بها القلوب الرهيفة، وترتعش لها الأكباد الحنونة، إذا توالت شكلت معزوفة سمفونية جنائزية حزينة، تستدعي بالقوة"حفل مقنع" للأرواح الشريرة والأجساد المنبوذة لترقص رقصة الموت المجاني، وتحسب خطوات العشق الرمادي، وتهمس في الآذان فحيح الثعابين، و تنبئ بقدوم الأرماڭيدون...
فلا ترتعد أيها القارئ الكريم، تفاءل وتصالح مع الحياة، كذلك، في بكور كل يوم تنقر طبلة أذنك نوتات موسيقية، تسعف روحك التواقة الى فك العزلة عنها، وقد اختلطت هذه النوتات بصفيرة دراجة الدركي الذي يسبقها، لتشق جدار الزمن الكوروني، وتخترق الثقب الأرضي الأسود، كل ذلك للحفاظ على عصير إكسير الحياة طازجا منعشا، فما إن يتذوقه القنفذ الكوروني الخبيث حتى يستطيبه ويتلذذه، فيلقي سلاحه ويستريح كمقاتل أضناه التعب من هتك عرض الجسد الإنسي دون استحياء. ليحوله الى ملثم وملثمة لا فرق بينهما إلا في اتساع الخصر وانحراف الأرداف.
هذا القنفذ الكوروني الصيني المارق،انفلت من عقاله ليغزو كل البقاع و الأصقاع، وينتشر انتشار النار في الهشيم. ويجد جسد عباس قديرة الذي لم يتعود على معانقة الغرباء ولم يألف الانفتاح على كل قادم جديد، فيرفع حرارته ويفقده حاسة الشم ليعطي إشارة على أن الخبيث استحلى المقام وسكن الجسد.
رغم ماعرف على الرجل من جلد وصبر أثناء مزاولة عمله كموظف بوزارة الداخلية لم يبق مما يملكه من ذلك سوى حشرجات صوتية مبحوحة تشبه صوت خشبة مْسَنَّدَة تنتظر الصيحة الكبرى. هذا السكون الاضطراري أعاده للأمس و اقتلعه من حاضره ليشعل فيه نار الشوق إلى كل المحطات التي مر منها قطار حياته قبل أن يتوقف في هذه الأخيرة وقفة تأمل وتصحيح خوفا ورهبة من مغادرة غير طوعية...
و لدرء الكارثة ، حُمِل السي عباس قديرة على وجه السرعة إلى المستشفى العسكري، المرستان الذي لا يستسيغ إلا المنعم عليهم والموشحة صدورهم بأوسمة الرضا والطاعة، وهو بناية جميلة مصممة على طراز هندسي واقعي ، متعدد الاختصاصات حيث حَوَّلَه المناخ الصحي المضطرب إلى جناح كبير مخصص فقط لمرضى الكوڤيد،..وليؤدي وظيفته كاملة، سيج بشريط أخضر زاهي بأنواع من الورود والزهور، كُلِّلَ بعدد من أشجار الزيتون، ثُبِّتَتْ أسفلها أرائك لاستراحة المرضى.
في هذا الجناح ترى الممرضات يتراقصن بوزراتهن البيضاء، وكأنهن حمامات سلام كُلِّفَتْ بوضع حد لغربة الأرواح التي تغادرنا شيئا فشيئا، وعلى وجوههن الرضا للعطاء دون الأخذ، وذنبهن في الأصل الصبر.
ففي صباح أطلت شمسه من نافذة الحجرة المعطرة بعبق النسيم المتسلل من خارج المستشفى و الممتزج بأريج التربة الطينية المصففة بأنواع الورود والنباتات العطرية، كانت إحداهن كالعادة تتردد على عباس قديرة للقيام بجميع الإجراءات الصحية الضرورية لإسعافه..
تفرست وجهه الطفولي، ورفعت يده التي أَلِفَتْ لمسها كل صباح لِتَعُدَّ نبضات قلبه وتقيس الحرارة النابعة من هذا الصرح الممتد أمامها محاولة سبر غوره رغم غيابه عن إدراك ماحوله. فالتَّماس المستمر بينها وبينه حولها الى مفاعل حراري يضخ طاقة كميائية قوية تسري عبر شبكة منسجمة تخلخل كيانها الرهيف، وتسلم ذاتها لنحيب دائم على حظها السوداوي، حيث خمرتها الرغبة في تكسير جدارالخجل الذي يخنقها، ويحتجز كل خفقة تكنزها و تدخرها لمثل هذه اللحظات القهرية كباقي أخواتها من جنسها اللطيف لتصدح في أذنه وتقول "أحبك"...استسلمت لحلمها وسرقتها غفوة يقظة لتجد نفسها مرتدية فستانا طويلا أبيضا في غرفة نوم شملها البياض من كل جنباتها،تحف جدرانها ستائر قرمزية اللون، يتوسطها سريروردي عريض يتمدد عليه عريس حلمها عباس قديرة وهو يلبس منامة بيضاء مخططة بأشرطة عرضية سوداء وكأنه سجين ينتظر عفوا ملكيا لحسن سيرته وسلوكه.. ويداه ممدودتان وعيناه مغرغرتان بالدموع.. ينظر إليها نظرة استعطاف ورحمة ولسان حاله يقول : إقتربي لأقص عليك كل حكاياتي الغرامية، وأجعلك بطلة تقام من أجلها الحروب، وأخلدك في ملحمة إلياذة هوميرية على مقاسك.. وأطير بك على جناح السرعة وأحوم بك حول عالمك الداخلي وأحملك على هودج سحري وأنت تلوحين بيديك لكل الكائنات السفلية التي تنط و"تجْدِبُ"، متأثرة بفعل موسيقى إيقاعية مختلطة النغمات " ها لڭناوي،ها العيساوي،ها الشعبي،ها تقيتقات…"، لتتبرك بأهداب برنوسك الملكي.. عَجَزَتْ هذه الممرضة عن الاقتراب من عريسها الوهمي وكأنها رُبِطَتْ إلى الجدارمن خلف بسلاسل حديدية صلدة لم تقوى على كسرها. ولكنها قدمت إليه عبر أثير غرفتها صحنا عليه قلبا صغيرا وهي تقول: خذ هذا القلب، وافتحه، لعلك تجد المفتاح الذي يلائم بوابة سجنك، فتخرج وتعود إلي وإلى أهلك سالما معافى..ثم أحنت رأسها على كثفها من شدة العياء وقد تشبهت بمُصَلَّبِ بني إسرائيل.. لتستفيق من غفوتها الحالمة على نبرة قوية لجهاز القلب المجانب للسرير وهي تُنْعي وفاة عباس قديرة.. وتسقط الممرضة أرضا وهي تصيح : "آآآه يا نساء إحذرن الوحش قاتل الرجال ".."آآآه، واحذرنني فأنا لست سوى امرأة مشؤومة، قاتلة لا حظ لها مع الرجال."
Post A Comment: