بمحاذاة البحر ولكنها أبعد ما يكون عن إلتقاط رائحته، رائحة البحر تعرف طريقها لأنوف المصطافين وسكان الصف الأول، للمارقين خلف قبعاتهم على شاطئه ،تلك الرائحة التى ضن بها على سكان تلك الحارة الضيقة 
كما ضنت الشمس بأشعتها في شتاء قارس، ستلتقط أنفك تركيبة عطرية غريبة، رائحة عطب الجدارن وقد خالطها رائحة دافئة تتسرب من خلف أحد فتيان الأكروبات الشعبية يمسك مقود دراجته بيد واحدة وترفع الأخرى قفص من جريد بمحاذاة رأسه اصطف عليه خبز طازج، ستدفع حرارته الذباب بعيداً ليجد طريقه إلى وجه الصغار ممن وقفوا بإنتظار خروج( الطعمية) من جفنة عميقة مليئة بزيت قد مل غليه يومياً عشرات المرات فأعلن سواده حداداً عله يُرحم، طَمِعَ في رحمة ممن؟!
إنها ستينية الطلة بالعقد الرابع من عمرها، فرع يابس لكنه لم يخلو من ثمار الأنوثة، تفترش الرصيف أمام مدخل عمارة قديمة تسكن وولديها في جحر أسفلها تعجز عن دفع إيجاره.
لا يمكن الجزم بلون بشرتها الأصلى ربما كانت حنطية فلفحتها حرارة الجفنة لتصير سوداء، عقدت فوق جبينها منديلاً مهترءاً كمثيلاتها ممن دُرنَ بطاحونة السعي في طلب الرزق ربما كان وسيلة منهن للحفاظ على توازن الرأس من مغبة الدوران ، وربما كان محاولة لوقف سيل الأفكار في واقع مرير .
لم ينجح منديلها في ذلك .فقد خرجت كرات العجين من بين يديها إلى الجفنة متلاحقة كفعل منعكس لا يشغل أي حيز بعقلها الذي إنهمك في التفكير ،
صُمت أذناها عن ضجيج الحارة فلاتسمع سوى صوت طبيب المستشفى الحكومي يحذرها من أن رئة صغيرها لن تصمد طويلاً في هذا الجحر، لابد من سكن آخر تجد الشمس والهواء طريقاً إليه. 
تمتمت لنفسها 
-غرفة السطوح مناسبة، نعم سيعود من المستشفى لغرفة السطوح لن يدخل هنا ثانية، رفعت رأسها لترمق بأسى حجرتها في الأرض .
ولكن ثمنها؟! عاودها المشهدالمرعب لصغيرها حين انتابته الكحة المقيتة وتقيأ الدم ولكنها عادت لإضطرابها 
ولكن ثمنها؟!
هنا تجلى المشهد الأقسى حين حملته على ذراعها جثة زرقاء تداركها لطف القدر فبعثت من جديد ماذا لو سقط ولم يعود إختنقت بالدموع في مواجهة هول هاجس فكيف ستصمد إذا تحقق.
في غرفة مظلمة تفوح منها رائحة تبغ خالطهاعطر رخيص وعرق غريزي كروائح حيوانات الحظيرة في موسم التزاوج.
تكورت فوق سرير ضمت ساقيها العاريتان لصدرها لتغطيهما بأسمالها البالية، مدت يدها لتغلق فتحة صدر قد شُقت لمنتصف البطن،حاولت لملمة أشلائها المبعثرة، جابت بيديها فوق صدرها وذراعيها ثم تحسست شعرها المشعث، إنها محاولات فاشلة لتغطية جسد كامل بكفين توقفت لتضعهما فوق وجهها ربما توقفت عيناها عن رصد المشهد ، غرس وتد الخزي بعينيها صوت ذكوري قد أطلق ضحكة جشاء
-مبروك عليكِ (أوضة) السطوح .
#هبة_الله_محمود








Share To: