ما زال الحديث موصولاً عن هجرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ونتابع ونقول :

🌾سابعا : درس في كرامات رسول الله :

على الرغم من تغيير الطريق إلى المدينة فقد اشتد الطلب في أثر المهاجرين الكريمين ، فبادر أحد فرسان قريش وكان اسمه سراقة بن مالك بالركض شمالا بحثا عنهما ، حتى إذا قرب منهما دعى عليه رسول الله فعثرت به فرسه وخر عنها ثم قام وركب عليها فغاصت قدما الفرس في الأرض ، ثم زجرها فنهضت فاستجار برسول الله فأجاره ، ثم يدفعه الطمع إلى تناسي ما وقع له فيصيبه أشد منه حتى آمن ألا سبيل له إليهما ، وظهر له من الكرامات ماجعله يعود صادا للمتعقبين لهما .

وفي الطريق إلى المدينة نزل ركب رسول الله ﷺ للتزود بالطعام والشراب على خيام لأم معبد الخزاعية ، والمنطقة تعيش في شدة من الجدب والعوز ، فسألوها أن تبيعهم لحما أو لبنا أو تمرا ، فقالت : والله لو كان عندنا ما أعوزناكم القرى ، أي القيام بواجبات الضيافة .

 وفجأة أبصر رسول الله شاة خَلَّفها عن الغنم شدة ما بها من هزال وجهد ، فسأل رسول الله ﷺ: هل بها من لبن ؟ 

قالت أم معبد: هي أجهد من ذلك قال : أتأذنين لي في حلابها؟

 أجابت : والله ما ضربها من فحل قط ، فشأنك إن رأيت فيها حلبا فاحلبه ، وأحضرتها له . 

فمسح رسول الله ﷺ بيده الشريفة على ظهر الشاة وعلى ضرعها مسميا باسم الله فدرت، ودعا بإناء فحلب ، ونزل اللبن قويا في صوته ، ثرا في تدفقه حتى امتلأ الإناء ، فقدمه لأم معبد فشربت حتى رويت ، وشرب جميع من حضر حتى رووا ، وأخيرا شرب رسول الله حتى روي ، وكان قدومه على أهل هذه المنطقة بشير يمن وبركة، فنزل الغيث ، واخضرت الأرض ، ودرت ضروع الحيوانات ، فأطلقوا على زائرهم لقب المبارك . 

وفي الطريق إلى يثرب لقى ركب النبي كلا من أبي بريدة والزبير بن العوام ، وكان أبو بريدة زعيم قوم أخرجوا وفدا من أكثر من سبعين رجلا في طلب الرسول وصحبه ، ولما واجهوه أسلموا جميعا .

 أما الزبير فكان في جماعة من التجار المسلمين العائدين من بلاد الشام ففرحوا بلقاء الرسول وصحبه.

🌾ثامنا : درس في تحقق نصر الله لعباده الصالحين :

بعد أحد عشر يوما في الطريق وصل ركب رسول الله ﷺ إلى قباء فاستقبل أهلها الركب بالترحاب والفرحة والبهجة ، وقضى الرسول وصحبه عدة أيام في قباء يصلون في مسجدها وهو أول مسجد أسس على التقوى . 

ثم تحرك الركب المبارك إلى المدينة انتزاعا من قلوب أهل قباء ، فتزاحم أهل يثرب على زمام ناقة الرسول ، كل يريد أن يظفر بنزول هذا الركب المبارك عنده ، ورسول الله يقول : "دعوها فإنها مأمورة". 

حتى بركت في موضع مسجده الشريف إلى جوار بيت أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه الذي نزل به رسول الله . 

وكانت الأرض التي بركت فيها الناقة أرضا خلاءً يملكها يتيمان في المدينة ، فوهباها لرسول الله ﷺ ولكنه أصر على دفع ثمنها كاملا قبل البدء ببناء المسجد فيها ، وفي هذا المسجد الذي كان شديد التواضع في بساطته.

ربى رسول الله ﷺ رجالا ونساء من المسلمين الذين فهموا حقيقة رسالتهم في الحياة عبادا صالحين لله ، مطالبين بعبادته تعالى بما أمر ، ومستخلفين ناجحين في الأرض ، مطالبين بعمارتها ، وبإقامة شرع الله وعدله في ربوعها. 

وبهؤلاء الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات أقام رسول الله ﷺ أعظم دولة عرفتها الإنسانية عبر تاريخها الطويل ، وأعظم حضارة شهدتها الأرض منذ أن خلقها رب العالمين .

🌾تاسعا : درس في الأخوة الإسلامية والتكافل الإسلامي :

فقد آخى رسول الله ﷺ بين المهاجرين والأنصار ، وأكد على ضرورة التكافل بينهم ، وبذلك أقام قواعد المجتمع الإسلامي الذي وصفه القرآن الكريم بقول الحق تبارك وتعالى: 

"وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ.

 (الحشر: 9).

🌾عاشرا : درس في أن الهجرة من سنن الفطرة :

فقد هاجر كل ما نعلم من الأنبياء من أرضه كما أننا في كل لحظة من لحظات وجودنا نتواجد في نقطة مختلفة من الكون ، والكون كله يتحرك في اتجاه الانتقال إلى الآخرة .

لذلك اتخذ الفاروق رضي الله عنه يوم هجرة رسول الله ﷺ مبتدأً للتاريخ الإسلامي ، لأن هذ اليوم المبارك انتقلت فيه أمة محمد ﷺ من طور الاستضعاف إلى طور الاستخلاف في الأرض ، فأقامت أطول وأكمل حضارة شهدتها الأرض ، لأنها امتدت لأكثر من عشرة قرون كاملة ، وكانت الحضارة الوحيدة (فيما نعلم) التي جمعت بين الدنيا والآخرى في معادلة واحدة.

وعلى ذلك فإنه بالاحتفال بذكرى هذا الحدث العظيم (هجرة رسول الله ﷺ) والتي لولاها ما وصلنا الإسلام ، و لعاشت البشرية كلها في دياجير الشرك والكفر والضلال التي غاص وما يزال يغوص فيها غالبية أهل الأرض . 

من هنا كان واجب المسلمين عند كل احتفال بهذه الذكرى العطرة أن يسعوا لإحياء الدروس المستفادة منها فيصبح الاحتفال تحقيقا عمليا لروح الهجرة.






Share To: