التضييقُ في المُبَاحِ يُفْضِي إلى تَوْسِعَةِ الحَرَامِ.
أما التوسعة في الحلال في زمن الفِتَنِ فإنها مِن علاماتِ الفِقْهِ ودلائلِه، وأماراتِ الفِقِيهِ، وأبَرَزِ صفاتِهِ.
والأصل في هذا:
قولُه تعالى:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [سورة البقرة: 185].
وقوله تعالى:
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [سورة الشرح: 5 - 6].
وقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في وصيته لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما عندما بعثهما إلى اليمن:
«يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا».
رواه البخاري ومسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم:
«إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ»
رواه البخاري.
وكان هذا هو منهجه عليه الصلاة والسلام، وهو الأسوة والقدوة لأمته، كما تَروِي ذلك عنه أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت :
«مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا».
رواه البخاري ومسلم.
وقد استنبط العلماء من هذا الحديث، أنه من ضوابط الفتوى:
«تقديم الأيسر على الأحوط : فإنَّ الأدلةَ على رَفْعِ الآَصَارِ والأغلال عن كاهِلِ هذه الأُمَّةِ بَلَغَتْ مَبْلَغَ القَطْعِ، فضلاً عن وَفْرَتِها واطِّرادِها في المصادر الإسلامية كتاباً وسُنَّةً وأَثراً وقياساً وعملاً .
ويكفي أن نستحضر هنا حديث عائشة رضي الله عنها :
"مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا" .
فإنه نَصٌّ في أولويةِ التيسير، وضرورةِ حَمْلِ الناسِ علَى مَذْهَبِ الوَسَطِ، فلَا يَمِيلُ المُفتِي بهم إلى شِدَّةٍ مُنَفِّرَةٍ مِن الدِّين، ولا يَجْنَحُ بهم إلى انحلالٍ ناقضٍ للعُرَى، هاتِكٍ للحُرُمات؛ ولذلك كان ما خَرَجَ عن المَذهبِ الوَسَطِ مَذمًُوماً عند العلماء الراسخين.
والتيسير هنا لا مدخل له في تَصَيُّدِ الرُّخَصِ، وتَتَبُّعِ الحِيَلِ المُحَرَّمَةِ، لإسقاطِ الأحكام والتَّنَصُّلِ منها؛ لأنَّ الأصلَ أنْ تُنَقَّحَ فيه الضرورةُ وتُقَدَّرَ، ويُعمَلَ بالرُّخصة في مَحَلِّها، وتُحترَمَ قواطِعُ الأدلَّةِ والقواعدُ، فلا بُدَّ إذَنْ مِن صدورِ التيسيرِ مِن عارِفٍ ثِقَةٍ».
إنَّ بعضَ الناسِ يَحْمِلُهم اتباعُ ظَواهِر النصوصِ على :
«تَحَوُّطٍ يُفْضِي إلى تَشَدُّدٍ؛ لِذَا يُبالِغون في سَدِّ الذَّرِائِع، ولا يَعرِفون في الفقهِ إلا رأيًا واحدًا هو الراجح المُطْلَق، ومَا سِوَاهُ عَدَمٌ مِنَ العَدَمِ!
وهذا الرأي الراجح المُطْلَق عندهم يُفِضِي بصاحِبِهِ إلَى تَشديدٍ وتَعسيرٍ، الشريعةُ مِنْهُ بريئةٌ».
إنَّ كثيرًا من المتصدِّرين لدعوة الناس عبر وسائل التواصل وغيرها :
«يَجْنَحُ إلى تَنزيلِ المُسْتَحَّبِّ مَنْزِلَةَ الواجبِ!
وفي هذا تَوَسُّعٌ في إيجابِ الواجباتِ، وقد يَصْحَبُهُ تَضيِيقٌ في إباحةِ المُبَاحاتِ، أو تَوسيعٌ لدائرةِ المُحَرَّمَاتِ، وربَّما تَرَافَقَ مع هذا غُلُوٌّ في الاختياراتِ الفِقْهِيَّةِ الفُرُوعِيَّةِ الاجتهادية، فنُزِّلَتْ مَنْزِلَةَ الثَّوابِتِ والقَطْعِيَّاتِ، وتَحَوَّلَتْ الاجتهاداتُ إلى مناهجَ» يُحْمَلُ الناسُ عليها، ويُحَاكًمُون إليها، ويُصَنَّفُونَ على أساسِها.
إن التشديد في زماننا قد أصحابُه أثوابًا يلبسونها يخدعون بها الناسَ ، فقد «يَرْتَدِي التشديدُ ثَوْبًا عَقَدِيًّا ؛ فيُبدَّعُ مِن الأقوالِ أو الأفعالِ ما ليسَ ببِدْعَةٍ أصلاً ، وقد يَرْتَدِي ثَوْبًا أُصًولِيًّا ؛ فَيُتَّخَذُ مِن سَدِّ الذَّرَائِع مَنهجًا في الفُتْيَا الحَاظِرةِ ، ويُهْمَلُ فتحُ الذَّرَائِع !
أو يُغَلَّبُ جانِبُ الأَخْذِ بالأَعْنَتِِ ؛ ظَنًّا أنَّهُ الأَحْوَطُ ! وقد الذَّرَائِع ثَوْبًا فِقْهِيًّا، وآخَرَ دَعَوِيًّا ... وهكذا»!
و(الصواب يكون في الأَسَدِّ لا في الأَشَدِّ).
و«التشديدُ: هو الاجتهادُ الأسهلُ، وليس الأفضلَ؛ إذِ "التَّشْدِيدُ يُحْسِنُهُ كُلُّ أَحَدٍ! وإِنَّمَا الْعِلْمُ: الرُّخْصَةُ مِنْ ثِقَةٍ» .
كما قال الإمامان سفيان الثوري ومَعْمَر البَصْرِي رحمهما الله».
والأمر كما قال الإمام النووي رحمه الله:
«مَنْ صَحَّ قَصْدُهُ، فَاحْتَسَبَ فِي طَلَبِ حِيلَةٍ لَا شُبْهَةَ فِيهَا؛ لِتَخْلِيصٍ مِنْ وَرْطَةِ يَمِينٍ وَنَحْوِهَا، فَذَلِكَ حَسَنٌ جَمِيلٌ: وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا جَاءَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنْ نَحْوِ هَذَا كَقَوْلِ سُفْيَانَ».
إن المسائل المعاصرة خصوصًا «تحتاج إلى فقهٍ رشيدٍ يتسع فيه الصَّدْرُ، ويَسْمُو فيه المَرْءُ عن أهوائِه؛ فلَيْسَ الفقيهُ هو الذي يتعصب لِرَأْيِه، أو يُشَدِّد على الناس».
إنَّ بعضَ الناسِ يُحَجِّرُون واسعاً على الأُمَّة، ويُشَدِّدون عليهم، ويَظُنُّون أنَّ في هذا التشددِ الْتِزَامًا تامًّا بالدِّين!
و«إنَّ جمهور الناس في عصرنا أحوجُ ما يكونون إلى التيسير والرفقِ؛ رعايةً لظروفهم وما غَلَبَ علَى أكثرِهم مِن رِقَّةِ الدِّينِ وضَعْفِ اليَقِينِ، وما ابْتُلُوا بِهِ مِن كثرةِ المُغْرِيَات بالإثمِ، والمُعَوِّقَاتِ عن الخيرِ، ولهذا كان علَى أهلِ الفقهِ والدعوةِ أن يُيسروا عليهم في مسائلِ الفُروع، علَى حينِ لا يَتَساهلُون في قضايَا الأصولِ.
ومَن كان يَعْمَلُ بالأَحْوَطِ: فهذا حَسَنٌ إذا كان ذلك لِنَفْسِهِ ولأُولِي العَزْمِ مِن المؤمنين.
أما مَن كان يُفتِي الناسَ عامَّةً، أو يَكتبُ للجماهيرِ كافَّةً: فينبغي أن يكونَ شِعَارُه التيسيرَ لا التعسير، والتبشيرَ لا التنفير، اتِّبَاعًا لوصيةِ النبي صلى الله عليه وسلم لمُعاذٍ وأبي موسى حين بَعَثَهُما إلى اليَمَن».
«وقد كان الفقهاءُ المُحَقِّقُون يُرَجِّحُون بين الأحكام بما هو أَرْفَقُ وأَصْلَحُ للناس مَعًا؛ ذلك أنَّ الاعترافَ بحاجاتِ الناسِ وتقديرَها منهجٌ شَرعِيٌّ دَلَّ عليه ما اتَّفَقَ الفقهاءُ علَيْهِ مِن رعايةِ الضَّرُوراتِ، وتَنْزِيلِ الحَاجَةِ مَنْزِلَةَ الضَّرُورةِ».
أمثلة رائعة :
قال الإمامُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيّ:
«إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ الَّذِي قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، وَأَنْتَ تَرَى غَيْرَهُ [تَرَى تَحْرِيمَهُ]، فَلَا تَنْهَهُ».
وقال أيضًا:
«مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، فَلَا أَنْهَى أَحَدًا مِنْ إِخْوَانِي أَنْ يَأْخُذَ بِهِ».
وقال الإمام أحمد بن حنبل:
«مَنْ أَفْتَى النَّاسَ لَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مَذْهَبِهِ وَيُشَدِّدَ عَلَيْهِمْ».
«وَقَدْ سُئِلَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه عَنْ مَسْألةٍ فِي الطَّلاقِ فَقَال: "إِذَا فَعَلَهُ يَحْنَثُ".
فَقَال لَهُ السَّائِلُ: إِنْ أَفْتَانِي أَحَدٌ بِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، يَعْنِي يَصِحُّ؟
فَقَال: "نَعَمْ" وَدَلَّهُ عَلَى مَنْ يُفْتِيهِ بِذَلِكَ».
أي أن الإمام أحمد دَلَّ السائلَ على مُفْتٍ يخالِفُه في اجتهادِه ؛ لِمَا في ذلك مِنَ السَّعَةِ علَى المُسَتْفِتي.
وقال ابن تيمية:
«مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ مَنْ عَمِلَ فِيهَا بِقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ وَلَمْ يُهْجَرْ وَمَنْ عَمِلَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ :
فَإِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ يَظْهَرُ لَهُ رُجْحَانُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَمِلَ بِهِ وَإِلَّا قَلَّدَ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِمْ فِي بَيَانِ أَرْجَحِ الْقَوْلَيْنِ».
إن ما سبق كلُّه «يجعل الفقيهَ يَستَحضِر الرُّخَصَ ؛ فـ"إنَّ اللهَ يُحِبُّ أنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ"، ويُقَدِّرُ الأعذارَ والضروراتِ ، ويَبحثُ عن التيسير ورَفْعِ الحَرَجِ ، والتخفيفِ عن العامَّة ، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}.
[النساء: 28]».
Post A Comment: