رُوِيَ أنَّ قاضي أنطاكية خَرَجَ ليلًا إلى مزرعةٍ له فلما سار من البلد اعترضه لصٌّ فقال له :
دَعْ ما معك وإلا أوقعتُ بك المكروه .
فقال القاضي : أيَّدَكَ اللهُ إنَّ لأهل العلم حُرْمَةٌ وأنا قاضي البلد فَمُنَّ عليَّ واتركنى .
فقال اللص : الحمدلله الذي أمكنني منك ؛ لأني منك على يقين أنك غنىٌّ ، وعندك ما يكفيك من الثياب والدواب ، أما غيرُك فربما كان ضعيف الحال فقيرًا لا يجد شيئا.
فقال له القاضي : أين أنت مما رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
الدِّينُ دِينُ الله والعباد عباد الله والسُّنةُ سنتي فمن ابتدع فعليه لعنة الله .
واللصوصية ، وقطعُ الطريق بدعة وأنا أُجلُّكَ من أن تدخل تحت اللعنه.
فقال اللص : يا سيدي القاضي هذا حديثٌ مُرْسَلٌ لم يُرْوَ عن نافع ولا عن ابن عمر ، ولو سَلَّمْتُه لك تسليمَ عَدْلٍ أو تسليم انقطاع فما بالك بلص متلصص مما لا قوت له ولا يرجع إلى كفاية عنده ؟! .
إنَّ ما معك هو حلالٌ لِي فقد روي عن مالك عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
لو كانت الدنيا دَمًا عبيطًا لكان قوت المؤمنين منها حلالا .
ولا خلاف عند كافة العلماء أن للإنسان أن يُحْييَ نفسَه وعيالَه بمال غيره إذا خشي الهلاك وأنا والله أخشى الهلاك على نفسي ، وفيما معك إحيائي وإحياءُ عيالي فسلِّمْهُ لِي وانصرفْ سالمًا .
قال القاضي : إذا كانت هذه حالتك فدَعْنِي أذهبْ إلى مزرعتي فأنزل إلى عبيدي وخدَمِي وآخذ منهم ما أستتر به وأدفع إليك جميع ما معي .
فقال اللص : هيهات فمثلك مثل الطير في القفص فإذا خرج إلى الهواء خرج عن اليد وأخاف أنْ أخلِّي عنك فلا تدفع لي شيئا .
فقال القاضي : أنا أحلف لك إني أفعل ذلك .
فقال اللص : حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
يمين المُكْرَهِ لا تلزم .
وقال تعالى :
إلَّا من أكِرِهَ وقلبُهُ مطمئنٌ بالإيمان .
وأخاف أنْ تتأوَّلَ عليّ فادفَعْ ما معك فأعطاه القاضي الدابة والثياب دون السراويل .
فقال اللص : سَلِّمْ السراويلَ ولا بد منها .
فقال القاضي : إنه قد آنَ وقتُ الصلاة وقد قال صلى الله عليه وسلم :
ملعونٌ مَنْ نَظَرَ إلى سوأة أخيه .
وقد آنَ وقتُ الصلاة ولا صلاة لعُريان والله يقول :
خذوا زينتكم عند كل مسجد .
وقيل في التفسير :
هي الثياب عند الصلاة .
فقال اللص : أما صلاتك فهي صحيحة حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال :
العُرَاةُ يُصَلُّونَ قيامًا ويقوم إمامُهم وسْطهم .
وقال مالك :
لا يُصَلُّونَ قيامًا يصلون متفرقين متباعدين ؛حتى لا ينظر أحدٌ منهم إلى سوأة البعض ..
وقال أبو حنيفة :
يُصَلُّونَ قعودًا .
وأما الحديث الذي ذكرتَ فهو حديث مُرْسَلٌ ولو سلَّمتُه لك لكان محمولًا على النظر على سبيل التلذذ وأما أنت فحالك اضطرارٌ لا حال اختيار .
ألا ترى أنَّ المرأة تغسل فرجها من النجاسة فلا تأمن النظر وكذلك الرجل إذا حَلَقَ عانته والرجل يَخْتِنُ غيرَه فإذا كان الأمر كذلك لم يلزم ما قاله القاضي .
فقال القاضي : أنت القاضي وأنا المستقضي وأنت الفقيه وأنا المستفتي وأنت المفتي خذ ما تريد ولا حول ولا قوة إلا بالله فأخذ السراويل والثياب ومضى .
ووقف القاضي مكانه حتى عرفه رجلٌ فقال القاضي :
واصفًا اللصَّ إنه من أجلاء الفقهاء قَعَدَ به الدهرُ حتى فَعَلَ به ما فعل فابعثْ إليه وأكرِمْهُ وأَجْرِ له ما يقتاتُ به وعياله .
Post A Comment: